منتديات زيوس

أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم 626202547


انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

منتديات زيوس

أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم 626202547

منتديات زيوس

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتديات زيوس

منتدى زيوس - برامج مجانية - ألعاب مجانية - كتب إلكترونية مجانية - برامج ستلايت - خلفيات وصور


3 مشترك

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الخميس يوليو 08, 2010 10:31 pm





    أبو أيوب الأنصاري

    انفروا خفافا وثقالا



    كان الرسول عليه السلام يدخل المدينة مختتما بمدخله هذا رحلة هجرته الظافرة, ومستهلا أيامه المباركة في دار الهجرة التي ادّخر لها القدر ما لم يدخره لمثلها في دنيا الناس..

    وسار الرسول وسط الجموع التي اضطرمت صفوفها وأفئدتها حماسة, ومحبة وشوقا... ممتطيا ظهر ناقته التي تزاحم الناس حول زمامها كل يريد أن يستضيف رسول الله..

    وبلغ الموكب دور بني سالم بن عوف, فاعترضوا طريق الناقة قائلين:

    " يا رسول الله, أقم عندنا, فلدينا العدد والعدة والمنعة"..

    ويجيبهم الرسول وقد قبضوا بأيديهم على زمام الناقة:

    " خلوا سبيلها فانها مأمورة".

    ويبلغ الموكب دور بني بياضة, فحيّ بني ساعدة, فحي بني الحارث بن الخزرج, فحي عدي بن النجار.. وكل بني قبيل من هؤلاء يعترض سبيل الناقة, وملحين أن يسعدهم النبي عليه الصلاة والسلام بالنزول في دورهم.. والنبي يجيبهم وعلى شفتيه ابتسامة شاكرة:

    " خلوا سبيلها فانها مأمورة..



    لقد ترك النبي للمقادير اختيار مكان نزوله حيث سيكون لها المنزل خطره وجلاله.. ففوق أرضه سينهض المسجد الذي تنطلق منه الى الدنيا بأسرها كلمات الله ونوره.. والى جواره ستقوم حجرة أو حدرات من طين وطوب.. ليس بها من متاع الدنيا سوى كفاف, أو أطياف كفاف!! سيسكنها معلم, ورسول جاء لينفخ الحياة في روحها الهامد. وليمنح كل شرفها وسلامها للذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.. للذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم.. وللذين أخلصوا دينهم للله.. للذين يصلحون في الأرض ولا يفسجون.

    أجل كان الرسول عليه الصلاة والسلام ممعنا في ترك هذا الاختيار للقدر الذي يقود خطاه..

    من اجل هذا, ترك هو أيضا زمام ناقته وأرسله, فلا هو يثني به عنقها ولا يستوقف خطاها.. وتوجه الى الله بقلبه, وابتهل اليه بلسانه:

    " اللهم خر لي, واختر لي"..

    وأمام دار بني مالك بن النجار بركت الناقة.. ثم نهضت وطوّفت بالمكان, ثم عادت الى مبركها الأول, وألأقت جرانها. واستقرت في مكانها ونزل الرسول للدخول.. وتبعه رسول الله يخف به اليمن والبركة..

    أتدرون من كان هذا السعيدالموعود الذي بركت الناقة أمام داره, وصار الرسول ضيفه, ووقف أهل المدينة جميعا يغبطونه على حظوظه الوافية..؟؟

    انه بطل حديثنا هذا.. أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد, حفيد مالك بن النجار..

    لم يكن هذا أول لقاء لأبي أيوب مع رسول الله..

    فمن قبل, وحين خرج وفد المدينة لمبايعة الرسول في مكة تلك البيعة المباركة المعروفة بـ بيعة العقبة الثانية.. كان أبو أيوب الأنصاري بين السبعين مؤمنا الذين شدّوا أيمانهم على يمين الرسول مبايعين, مناصرين.



    والآن رسول الله يشرف المدينة, ويتخذها عاصكة لدين الله, فان الحظوظ الوافية لأبي أيوب جعلت من داره أول دار يسكنها المهاجر العظيم, والرسول الكريم.

    ولقد آثر الرسول أن ينزل في دورها الأول.. ولكن ما كاد أبو أيوب يصعد الى غرفته في الدور العلوي حتى أخذته الرجفة, ولم يستطع أن يتصوّر نفسه قائما أو نائما, وفي مكان أعلى من المكان الذي يقوم فيه رسول الله وينام..!!

    وراح يلح على النبي ويرجوه ان ينتقل الى طابق الدور الأعلى فاستجاب النبي لرجائه..

    ولسوف يمكث النبي بها حتى يتمّ المسجد, وبناء حجرة له بجواره..

    ومنذ بدأت قريش تتنمّر للاسلام وتشن اغاراتها على دار الهجرة بالمدينة, وتؤلب القبائل, وتجيش الجيوش لتطفئ نور الله..

    منذ تلك البداية, واحترف أبو أيوب صناعة الجهاد في سبيل الله.

    ففي بدر, وأحد والخندق, وفي كل المشاهد والمغازي, كان البطل هناك بائعا نفسه وماله لله ربو العالمين..

    وبعد وفاة الرسول, لم يتخلف عن معركة كتب على المسلمين أن يخوضوها, مهما يكن بعد الشقة, وفداحة المشقة..!

    وكان شعاره الذي يردده دائما, في ليله ونهاره.. في جهره واسراره.. قول الله تعالى:

    ( انفروا خفافا وثقالا)..

    مرة واحدة.. تخلف عن جيش جعل الخليفة أميره واحدا من شباب المسلمين, ولم يقتنع أبو أ]وب بامارته.

    مرة واحدة لا غير.. مع هذا فان الندم على موقفه هذا ظل يزلزل نفسه, ويقول:

    " ما عليّ من استعمل عليّ"..؟؟

    ثم لم يفته بعد ذلك قتال!!



    كان حسبه أن يعيش جنديا في جيش الاسلام, يقاتل تحت رايته, ويذود عن حرمته..

    ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية, وقف مع علي في غير تردد, لأنه الامام الذي أعطي بيعة المسلمين.. ولما استشهد وانتهت الخلافة خعاوية وقف أبو أيوب بنفسه الزاهدة, الصامدة التقية لا يرجو من الدنيا سوى أن يضل له مكان فوق أرض الوغى, وبين صفوف المجاهدين..

    وهكذا, لم يكد يبصر جيش الاسلام يتحرك صوب القسطنطينية حتى ركب فرسه, وحمل سيفه, وراح يبحث عن استشهاد عظيم طالما حنّ اليه واشتاق..!!



    وفي هذه المعركة أصيب.

    وذهب قائد جيشه ليعوده, وكانت أنفاسه تسابق أشواقه الى لقاء الله..

    فسأله القائد, وكان يزيد بن معاوية:

    " ما حاجتك أبا أيوب"؟

    ترى, هل فينا من يستطيع أن يتصوّر أو يتخيّل ماذا كانت حاجة أبا أيوب..؟

    كلا.. فقد كانت حاجته وهو يجود بروحه شيئا يعجز ويعيي كل تصوّر, وكل تخيّل لبني الانسان..!!

    لقد طلب من يزيد, اذا هو مات أن يحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به الى أبعد مسافة ممكنة في أرض العدو, وهنالك يدفنه, ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق, حتى يسمع وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره, فيدرك آنئذ ـنهم قد أدركوا ما يبتغون من نصر وفوز..!!

    أتحسبون هذا شعرا..؟

    لا.. ولا هو بخيال, بل واقع, وحق شهدته الدنيا ذات يوم, ووقفت تحدق بعينيها, وبأذنيها, لا تكاد تصدق ما تسمع وترى..!!

    ولقد أنجز يزيد وصيّة أبي أيوب..

    وفي قلب القسطنطينية, وهي اليوم استامبول, ثوى جثمان رجل عظيم, جدّ عظيم..!!



    وحتى قبل أن يغمر الاسلام تلك البقاع, كان أهل القسطنطينية من الروم, ينظرون الى أبي أيوب في قبره نظرتهم الى قدّيس...

    وانك لتعجب اذ ترى جميع المؤرخين الذين يسجلون تلك الوقائع ويقولون:

    " وكان الروم يتعاهدون قبره, ويزورونه.. ويستسقون به اذا قحطوا"..!!



    وعلى الرغم من المعارك التي انتظمت حياة أبي أيول, والتي لم تكن تمهله ليضع سيفه ويستريح, على الرغم من ذلك, فان حياته كانت هادئة, نديّة كنسيم الفجر..



    ذلك انه سمع من الرسول صلى الله عليه وسلم حديثا فوعاه:

    " واذا صليت فصل صلاة مودّع..

    ولا تكلمن الناس بكلام تعتذر منه..

    والزم اليأس مما في أيدي الناس"...

    وهكذا لم يخض في لسانه فتنة..

    ولم تهف نفسه الى مطمع..

    وقضى حياته في أشواق عابد, وعزوف مودّع..

    فلما جاء أجله, لم يكن له في طول الدنيا وعرضها من حاجة سوى تلك الأمنية لتي تشبه حياته في بطولتها وعظمتها:

    " اذهبوا بجثماني بعيدا.. بعيدا.. في ارض الروم ثم ادفنوني هناك"...

    كان يؤمن بالنصر, وكان يرى بنور بصيرته هذه البقاع, وقد أخذت مكانها بين واحات الاسلام, ودخلت مجال نوره وضيائه..

    ومن ثمّ أراد أن يكون مثواه الأخير هناك, في عاصمة تلك البلاد, حيث ستكون المعركة الأخيرة الفاصلة, وحيث يستطيع تحت ثراه الطيّب, أن يتابع جيوش الاسلام في زحفها, فيسمع خفق أعلامها, وصهيل خيلها, ووقع أقدامها, وصصلة سيوفها..!!

    وانه اليوم لثاو هناك..

    لا يسمع صلصلة السيوف, ولا صهيل الخيول..

    قد قضي الأمر, واستوت على الجوديّ من أمد بعيد..

    لكنه يسمع كل يوم من صبحه الى مسائه, روعة الأذان المنطلق من المآذن المشرّعة في الأفق..

    أن:

    الله أكبر..

    الله أكبر..

    وتجيب روحه المغتبطة في دار خلدها, وسنا مجدها:

    هذا ما وعدنا الله ورسوله

    وصدق الله ورسوله....





    عدل سابقا من قبل زيوس في الخميس يوليو 08, 2010 10:38 pm عدل 1 مرات
    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الخميس يوليو 08, 2010 10:33 pm



    أبو جابر عبدالله بن عمرو بن حرام



    ظليل الملائكة



    عندما كان الأنصار السبعون يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية, كان عبدالله بن عمرو بن حرام, أبو جابر بن عبدالله أحد هؤلاء الأنصار..

    ولما اختار الرسول صلى الله عليه وسلم منهم نقباء, كان عبدالله بن عمرو أحد هؤلاء النقباء.. جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبا على قومه من بني سلمة..

    ولما عاد الى المدينة وضع نفسه, وماله, وأهله في خدمة الاسلام..

    وبعد هجرة الرسول الى المدينة, كان أبو جابر قد وجد كل حظوظه السعيدة في مصاحبة النبي عليه السلام ليله ونهاره..



    **



    وفي غزوة بدر خرج مجاهدا, وقاتل قتال الأبطال..

    وفي غزوة أحد تراءى له مصرعه قبل أن يخرج المسلمون للغزو..

    وغمره احساس صادق بأنه لن يعود, فكاد قلبه يطير من الفرح!!

    ودعا اليه ولد جابر بن عبدالله الصحابي الجليل, وقال له:

    " اني لا أراي الا مقتولا في هذه الغزوة..

    بل لعلي سأكون أول شهدائها من المسلمين..

    واني والله, لا أدع أحدا بعدي أحبّ اليّ منك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    وان عليّ دبنا, فاقض عني ديني, واستوص باخوتك خيرا"..



    **



    وفي صبيحة اليوم التالي, خرج المسلمون للقاء قريش..

    قريش التي جاءت في جيش لجب تغزو مدينتهم الآمنة..

    ودارت معركة رهيبة, أدرك المسلمون في بدايتها نصرا سريعا, كان يمكن أن يكون نصرا حاسما, لولا أن الرماة الذين امرهم الرسول عليه السلام بالبقاء في مواقعهم وعدم مغادرتها أبدا أغراهم هذا النصر الخاطف على القرشيين, فتركوا مواقعهم فوق الجبل, وشغلوا بجمع غنائم الجيش المنهزم..

    هذا الجيش الذي جمع فلوله شريعا حين رأى ظهر المسلمين قد انكشف تماما, ثم فاجأهم بهجوم خاطف من وراء, فتحوّل نصر المسلمين الى هزيمة..



    **



    في هذا القتال المرير, قاتل عبدالله بن عمرو قتال مودّع شهيد..

    ولما ذهب المسلمون بعد نهاية القتال ينظرون شهدائهم.. ذهب جابر ابن عبداله يبحث عن أبيه, حتى ألفاه بين الشهداء, وقد مثّل به المشركون, كما مثلوا يغيره من الأبطال..

    ووقف جابر وبعض أهله يبكون شهيد الاسلام عبدالله بن عمرو بم جرام, ومرّ بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكونه, فقال:

    " ابكوه..

    أ,لا تبكوه..

    فان الملائكة لتظلله بأجنحتها"..!!



    **



    كان ايمان أبو جابر متألقا ووثيقا..

    وكان حبّه بالموت في سبيل الله منتهى أطماحه وأمانيه..

    ولقد أنبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فيما بعد نبأ عظيم, يصوّر شغفه بالشهادة..

    قال عليه السلام لولده جابر يوما:

    " يا جابر..

    ما كلم الله أحدا قط الا من وراء حجاب..

    ولقد كلّم كفاحا _أي مواجهة_

    فقالفقال له: يا عبدي, سلني أعطك..

    فقال: يا رب, أسألك أن تردّني الى الدنيا, لأقتل في سبيلك ثانية..

    قال له الله:

    انه قد سبق القول مني: أنهم اليها لا يرجعون.

    قال: يا رب فأبلغ من ورائي بما أعطيتنا من نعمة..

    فأنزل الله تعالى:

    (ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا, بل أحياء عند ربهم يرزقون, فرحين بما أتاهم الله من فضله, ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون)".



    **



    وعندما كان المسلمون يتعرفون على شهدائهم الأبرار, بعد فراغ القتال في أحد..

    وعندما تعرف أهل عبدالله بن عمرو على جثمانه, حملته زوجته على ناقتها وحملت معه أخاها الذي استشهد أيضا, وهمّت بهما راجعة الى المدينة لتدفنهما هناك, وكذلك فعل بعض المسلمين بشهدائهم..

    بيد أن منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق بهم وناداهم بأمر رسول الله أن:

    " أن ادفنوا القتلى في مصارعهم"..

    فعاد كل منهم بشهيده..

    ووقف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم يشرف على دفن أصحابه الشهداء, الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه, وبذلوا أرواحهم الغالية قربانا متواضعا لله ولرسوله.

    ولما جاء دور عبدالله بن حرام ليدفن, نادى رسول الله صلى اله عليه وسلم:

    " ادفنوا عبدالله بن عمرو, وعمرو بن الجموح في قبر واحد, فانهما كانا في الدنيا متحابين, متصافين"..



    **


    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الخميس يوليو 08, 2010 10:36 pm






    أبو ذر الغفاري





    زعيم المعارضة وعدو الثروات



    أقبل على مكة نشوان مغتبطا..

    صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم, بيد أن الغاية التي يسعى اليها, أنسته جراحه, وأفاضت على روحه الحبور والبشور.

    ودخلها متنكرا, كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام.. أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه, أو طال به السفر والارتحال فأوى اليها يستريح ويتزوّد.

    فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم, ويستمع اليه لفتكوا به.

    وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به, ولكن بعد أن يقابل الرجل الي قطع الفيافي ليراه, وبعد أن يؤمن به, ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته..

    ولقد مضى يتسمّع الأنباء من بعيد, وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر, حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله على محمد, وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه.

    في صبيحة يوم ذهب الى هناك, فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالاسا وحده, فاقترب منه وقال: نعمت صباحا يا أخا العرب..

    فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: وعليك السلام يا أخاه.

    قال أبو ذر:أنشدني مما تقول..

    فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام: ما هو بشعر فأنشدك, ولكنه قرآن كريم.

    قال أ[و ذر: اقرأ عليّ..

    فقرأ عليه الرسول, وأ[و ذر يصغي.. ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر:

    "أشهد أن لا اله الا الله.

    وأشهد أن محمدا عبده ورسوله"!

    وسأله النبي: ممن أنت يا أخا العرب..؟

    فأجابه أبو ذر: من غفار..

    وتألقت ابتسامة على فم السول صلى الله عليه وسلم, واكتسى وجهه الدهشة والعجب..

    وضحك أبو ذر كذلك, فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالاسلام أمامه انما هو رجل من غفار..!!

    فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق..!!

    وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع.. انهم حلفاء الليل والظلام, والويل لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار.

    أفيجيء منهم اليوم, والاسلام لا يزال دينا غصّا مستخفيا, واحد ليسلم..؟!



    يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه:

    ".. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا, لما كان من غفار, ثم قال: ان الله يهدي من يشاء.

    ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى, وأراد بهم الخير.

    وانه لذو بصر بالحق, فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى, وأراد بهم الخير.

    وانه لذو بصر بالحق, فقد روي عنه أنه أحد الذين كلنوا يتألهون في الجاهلية, أي يتمرّدون على عبادة الأصنام, ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم. وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفّه عبادة الأصناك وعبّادها, ويدعو الى عبادة الله الواحد القهار, حتى حث اليه الخطى, وشدّ الرحال.



    **



    أسلم أبو ذر من فوره..

    وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..

    اذن, هو قد أسلم في الأيام الأولى, بل الساعات الأولى للاسلام, وكان اسلامه مبكرا..

    وحين أسلم كلن الرسول يهمس بالدعوة همسا.. يهمس بها الى نفسه, والى الخمسة الذين آمنوا معه, ولم يكن أمام أبي ذر الا أن يحمل ايمانه بين جنبيه, ويتسلل به مغادرا مكة, وعائدا الى قومه...

    ولكن أبا ذر, جندب بن جنادة, يحمل طبيعة فوارة جيّاشة.

    لقد خلق ليتمرّد على الباطل أنى يكون.. وها هو ذا يرى الباطل بعينيه.. حجارة مرصوصة, ميلاد عابديها أقدم من ميلادها, تنحني أمامها الجباه والعقول, ويناديها الناس: لبيك.. لبيك..!!

    وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك.. ولكن لا بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل.

    لقد توجه الى الرسول عليه الصلاة والسلام فور اسلامه بهذا السؤال:

    يا رسول الله, بم تأمرني..؟

    فأجابه الرسول: ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري..

    فقال أبو ذر: والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد..!!

    ألم أقل لكم..؟؟

    تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة, أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به, وفي الدعوة التي سمع بتباشيرها على لسانه.. أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع الى أهله صامتا.؟

    هذا أمر فوق طاقته..

    هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته:

    [أشهد أن لا اله الا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله]...



    كانت هذه الصيحة أول صيحة بالاسلام تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها.. صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى..

    ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه.. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه..

    وترامى النبأ الى العباس عم النبي, فجاء يسعى, وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم الا بالحيلة لذكية, قال له:

    "يا معشر قريش, أنتم تجار, وطريقكم على غفار,, وهذا رجل من رجالها, ان يحرّض قومه عليكم, يقطعوا على قوافلكم الطريق".. فثابوا الى رشدهم وتركوه.

    ولكن أبا ذر, وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله, لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد...!!

    وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم, يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين (أساف, واثلة) ودعوانهما, حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان, ويهرول الرجال كالجراد, ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه..

    وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله". ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد, وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل. بيد أن وقته لم يأت بعد, فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه, حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه..



    **



    ويعود أبو ذر الى عشيرته وقومه, فيحدثههم عن النبي الذي ظهر يدعو الى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق, ويدخل قومه في الاسلام, واحدا اثر واحد.. ولا يمتفي بقبيلته غفار, بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه..!!

    وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن, ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة, ويستقر بها والمسلمون معه.

    وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان, أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة, لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك..

    اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه..

    لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم, جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجالا ونساءا. شيوخا وشبابا, وأطفالا..!!

    وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة..

    فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن اسلامه وايمانه, وقال معبّرا عن دهشته:

    "ان الله يهدي من يشاء"..!!

    أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة..وقد قطعت في الاسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر, وتجيء معها قبيلة أسلم..

    ان عمالقة السطور وحلفاء الشيطان, قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق.

    أليس الله يهدي من يشاء حقا..؟؟

    لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا..

    ونظر الى قبيلة غفار وقال:

    "غفار غفر الله لها".

    ثم الى قبيلة أسلم فقال:

    "وأسلم سالمها الله"..

    وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة, العزيز المنال.. ألا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية..؟؟

    أجل.. ولسوف يكون جزاؤه موفورا, وتحيته مباركة..

    ولسوف يحمل صدره, ويحمل تاريخه, أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة..

    ولسوف تفنى القرون والأجيال, والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر:

    " ما أقلّت الغبراء, ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر"..!!

    ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد, وقدرته اباهرة على مواجهة الباطل.. بيد أن وقته لم يأت بعد, فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه, حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه..



    **



    أصدق لهجة في أبي ذر..؟

    لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه, ولخص حياته كلها في هذه الكلمات..

    فالصدق الجسور, هو جوهر حياة أبي ذر كلها..

    صدق باطمه, وصدق ظاهره..

    صدق عقيدته وصدق لهجته..

    ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه, ولا يغالط غيره, ولا يسمح لأحد أن يغالطه..

    ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر..

    انما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ..

    الصدق ولاء رشيد للحق, وتعبير جريء عنه, وسير حثيث معه..



    ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته, فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله.

    وألقى الرسول يوما هذا السؤال:

    " يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء"..؟

    فأجاب قائلا:

    "اذن والذي بعثك بالحق, لأضربن بسيفي".!!

    فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:

    "أفلا أدلك على خير من ذلك..؟

    اصبر حتى تلقاني".

    ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات..؟؟

    الأمراء.. والمال..؟؟



    تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته, وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل..

    ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال, ليزوده هذه النصيحة الثمينة:"اصبر حتى تلقاني"..

    ولسوف يحفظ أبو 1ر وصية معلمه, فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار..

    أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم, فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار..

    ولسوف يفعل..



    **



    ومضى عهد الرسول, ومن بعده عصر أبي بكر, وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها..

    حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة, لم تكن تجد لرغباتها سبيلا ولا منفذا.

    وأيامئذ, لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللاهبة...



    ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر, فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الأرض, زهدا وتقشفا, ودعلا يكاد يكون فوق طاقة البشر..



    ان واليا من ولاته في العراق, أو في الشام, أ, في صنعاء.. أو في أي من البلاد النائية البعيدة, لا يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى, لا يجد عامة الناس قدرة على شرائه, حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام. وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير..!!

    ليهنأ أبو ذر اذن.. وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين..

    وما دام لا يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايقع استغلال السلطة, واحتكارالثروة, فان ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة, وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا..

    وهكذا تفرغ لعبادة ربه, وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا, أو هناك.. وقلما كان يرى..



    بيد أن أعظم, وأعدل, وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم, تاركا وراءه فراغا هائلا, ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفرّ منه ولا طاقة للناس به. وتستمر القتوح في مدّها, ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها..

    ويرى أبو ذر الخطر..



    ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله..

    ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري, توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات..

    ان المال الذي جعله الله خادما مطيعا للانسان, يوشك أن يتحوّل الى سيّد مستبد..

    ومع من؟

    مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة, في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه..!!

    ان خيرات الأرض التي ذرأها الله للناس جميعا.. وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن اصير حكرا ومزية..

    ان السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدة الأبرار, تتحول الى سبيل للسيطرة, وللثراء, وللترف المدمر الوبيل..

    رأى أبو ذر كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته.. بل راح يمد يمينه الى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه, ونهض قائما يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة.. لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول, فأعاد السيف الى غمده, فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم..

    (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ)

    ليس دوره اليوم أن يقتل.. بل أن يعترض..

    وليس السيف أداة التغيير والتقويم, بل الكلمة الصادقة, الأمينة المستبسلة..

    الكلمة العادلة التي لا تضل طريقها, ولا ترهب عواقبها.



    لقد أخبر الرسول يوما وعلى ملأ من أصحابه, أن الأرض لم تقلّ, وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر..

    ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة, وصدق الاقتناع, فما حاجته الى السيف..؟

    ان كلمة واحدة يقولها, لأمضى من ملء الأرض سيوفا..



    فليخرج بصدقه هذا, الى الأمراء.. الى الأغنياء. الى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم الى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا, لا جابيا.. ونبوة لا ملكا,.. ورحمة لا عذابا.. وتواضعا لا استعلاء.. وتكافؤ لا تمايز.. وقناعة لا جشعا.. وكفاية لا ترفا.. واتئادا في أخذ الحياة, لا فتونا بها ولا تهالكا عليها..

    فليخرج الى هؤلاء جميعا, حتى يحكم الله بينهم وبينه بالحق, وهو خير الحاكمين.



    **



    وخرج أبو ذر الى معاقل السلطة والثروة, يغزوها بمعارضته معقلا معقلا.. وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون.. حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد.. طاره اليها ذكره. وأصبح لا يمر بأرض, بل ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تسؤلات هامّة تهدد مصالح ذوي الشلطة والثراء.

    ولو أراد هذا الثائر الجليل أن يتخذ لنفسه ولحركته علما خاصا لما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتوهج حمرة ولهبا, فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان.. ويردده الانس عنه كأنه نشيد.. هذه الكلمات:

    "بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة"..!!

    لا يصغد جبلا, ولا ينزل سهلا, ولا يدخل مدينة, ولا يواجه أميرا الا وهذه الكلمات على لسانه.

    ولم يعد الانس يبصرونه قادما الا استقبلوه بهذه الكلمات:

    " بشّر الكانزين بمكاو من نار"..

    لقد صارت هذه العبارة علما على رسالته التي نذر حياته لها, حين رأى الثروات تتركز وتحتكر.. وحين رأى السلطة استعلاء واستغلال.. وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع, وتفان واخلاص..



    لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة.. هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلاد الاسلام خصوبة وخيرا وفيضا, وانه ليعطي الأموال ويوزعها بغير حساب, يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة, ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو اليه طموحه البعيد.

    هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الجعوة, فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر..

    وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه, وسابق الريح الى الشام..

    ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق, والتفوا حوله أينما ذهب وسار..

    حدثنا يا أبا ذر..

    حدثنا يا صاحب رسول الله..

    ويلقي أبو ذر على الجموع حوله نظرات فاحصة, فيرى أكثرها ذوي حصاصة وفقر.. ثم يرنو ببصره نحو المشارف القريبة فيرى القصور والضياع..

    ثم يصرخ في الحافين حوله قائلا:

    " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته, كيف لا يخرج على الانس شاهرا سيفه"..؟؟!!



    ثم يذكر من فوره وصية رسول الله أن يضع الأناة مكان الانقلاب, والكلمة الشجاعة مكان السيف.. فيترك لغة الحرب هذه ويعود الى لغة المنطق والاقناع, فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط.. وأنهم جميعا شركاء في الرزق.. وأنه لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى.. وأن أمير القوم ووليهم, هو أول من يجوع اذا جاعوا, وآخر من شبع اذا شبعوا..

    لقد قرر أن يخلق بكلماته وشجاعته رأيا عامّا من كل بلاد الاسلام يكون له من الفطنة والمناعة, والقوة ما يجعله شكيمة لأمرائه وأغنيائه, وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم, أو محتكرة للثروة.



    وفي أيام قلائل, كانت الشام كلها كخلايا نحل وجدت ملكتها المطاعة.. ولو أعطى أبو ذر اشارة عابرة بالثورة لاشتعلت نارا.. ولكنه كما قلنا, حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه, وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق.

    ولقد بلغ خطره على الامتيازات الناشئة مداه, يوم ناظر معاوية على ملأ من الناس. ثم أبلغ الشاهد للمناظرة, الغائب عنها. وسارت الرياح بأخبارها..

    ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة, كما وصفه نبيه وأستاذه..

    وقف يسائل معاوية في غير خوف ولا مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما, وعن ثروته اليوم..!!

    وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة, وعن قصوره بالشام اليوم..!!

    ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية الى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع.

    ثم يصيح فيهم جميعا: أفأنت الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم..؟؟

    ويتولى الاجابة عنهم: نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن, وشهدتم مع الرسول المشاهد..

    ثم يعود ويسأل: ألا تجدون في كتاب الله هذه الآية:

    (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.. يوم يحمى عليها في نار جهنّم, فتكوى بها جباههم, وجنوبهم, وظهورهم, هذا ما كنزتم لأنفسكم, فذوقوا ما كنتم تكنزون)..؟؟



    ويختلام معاوية طريق الحديث قائلا: لقد أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب..

    ويصيح أبو ذر: لا بل أنزلت لنا ولهم..

    ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال.. وألا يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه..

    وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر..

    ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات:

    (بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة)..



    ويستشعر معاوية الخطر, وتفزعه كلمات الثائر الجليل, ولكنه يعرف له قدره, فلا يقرّ به بسوء, ويكتب عن فوره للخليفة عثمان رضي الله عنه يقول له:" ان أبا ذر قد أفسد الانس بالشام"..

    ويكتب عثمان لأبي ذر يستدعيه للمدينة.

    ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر الى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة والوداع..!!



    **



    (لا حاجة لي في دنياكم)..!!

    هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل الى المدسنة, وجرى بينهما حوار طويل.

    لقد خرج عثمان من حواره مع صاحبه, ومن الأنباء التي توافدت عليه من كل الأقطار عن مشايعة الجماهير لآراء أبي ذر, بادراك صحيح لخطر دعوته وقوتها, وقرر أن يحتفظ به الى جواره في المدينة, محددا بها اقامته.

    ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا, رقيقا, فقال له:" ابق هنا يجانبي, تغدو عليك القاح وتروح"..

    وأجابه أبو ذر:

    (لا حاجة لي في دنياكم).!



    أجل لا حاجة له في دنيا الناس.. انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح, ويحيون الحياة ليعطوا لا ليأخذوا..!!

    ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج الى الرّبذة فأذن له..



    ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله, حافظا في اعماق روحه النصيحة التي وجهها اليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف.. لكأن الرسول رأى الغيب كله.. غيب أبي ذر ومستقبله, فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية.

    ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بايقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لاشباع ولعهم وكيدهم.

    جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة, فزجرهم بكلمات حاسمة:

    " والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة, أ جبل, لسمعت, وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي.."

    " ولوسيّرني ما بين الأفق الى الأفق, لسمعت وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي..

    " ولو ردّني الى منزلي, لسمعت وأطعت, وصبرت واحتسبت, ورأيت ذلك خيرا لي"..



    ذلك رجل لا يريد غرضا من أغراض الدنيا, ومن ثم أفاء الله عليه نور البصيرة.. ومن ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها.. كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر, فتحاشاه أيضا, ورفع صوته لا سيفه بكلمة الحق ولهجة الصدق, لا أطماع تغريه.. ولا عواقب تثنيه..!

    لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتّل.



    وسيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال, فالحكم والمال يملكان من الاغراء والفتنة ما يخافه أبو ذر على اخوانه الذين حملوا راية الاسلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم, والذين يجب أن يظلوا لها حاملين.

    والحكم والمال أيضا, هما عصب الحياة للأمة والجماعات, فاذا اعتورهما الضلال تعرضت مصاير الناس للخطر الأكيد.

    ولقد كان أبو ذر يتمنى لأصحاب الرسول ألا يلي أحد منهم امارة أو يجمع ثروة, وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى, وعبّادا لله..

    وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال, وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا.. ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من اغراء الامارة ويقول عنها:

    ".. انها أمانة, وانها يوم القيامة خزي وندامة.. الا من أخذها بحقها, وأدّى الذي عليه فيها"...



    ولقد بلغ الأمر بأبي ذر لى تجنّب اخوانه ان لم يكن مقاطعتهم,لأنهم ولوا الامارات, وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة..

    لقيه أبو موسى الأشعري يوما, فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه:" مرحبا أبا ذر.. مرحبا بأخي".

    ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول:

    " لست بأخيك, انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا"..!

    كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا, ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له:

    (اليك عني.. ألست الذي وليت الامارة, فتطاولت في البنيان, واتخذت لك ماشية وزرعا)..؟؟

    ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات..

    وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الجكم والثروة..

    ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه, ومع ايمانه, فأبو ذر يقف بأحلامه وأعماله.. بسلوكه ورؤاه, عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه.. أبو بكر وعمر..



    واذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية لا يدرك شأوها, فان ابا ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل, ولا سيما لأولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلام, وصلوا وراءه, وجاهدوا معه, وبايعوه على السمع والطاعة.

    كما أنه يدرك بوعيه المضيء, ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس, ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم, أو عدالة الثروة, يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته.



    **



    ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حاملا لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلام وصاحبيه, أمينا عليها, حارسا لها.. وكان أستاذ في فن التفوق على مغريات الامارة والثروة,...

    عرضت عليه الامارة بالعراق فقال:

    " لا والله.. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا"..

    ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله:

    أليس لك ثوب غير هذا..؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين..؟

    فأجابه أبو ذر: " يا بن أخي.. لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني"..

    قال له: والله انك لمحتاج اليهما!!

    فأجاب أب ذر: "اللهم غفر.. انك لمعظّم للدنيا, ألست ترى عليّ هذه البردة..؟؟ ولي أخرى لصلاة الجمعة, ولي عنزة أحلبها, وأتان أركبها, فأي نعمة أفضل ما نحن فيه"..؟؟



    **



    وجلس يوما يحدّث ويقول:

    [أوصاني خليلي بسبع..

    أمرني بحب المساكين والدنو منهم..

    وأمرني أن أنظر الى من هو دوني, ولاأنظر الى من هو فوقي..

    وأمرني ألا أسأل أحد شيئا..

    وأمرني أن أصل الرحم..

    وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا..

    وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم..

    وأمرني أن أكثر من: لا حول ولا قوة الا بالله].



    ولقد عاش هذه الوصية, وصاغ حياته وفقها, حتى صار "ضميرا" بين قومه وأمته..



    ويقول الامام علي رضي الله عنه:

    "لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر"..!!

    عاش يناهض استغلال الحكم, واحتكار الثروة..

    عاش يدحض الخطأ, ويبني الصواب..

    عاش متبتلا لمسؤولية النصح والتحذير..

    يمنعونه من الفتوى, فيزداد صوته بها ارتفاعا, ويقول لمانعيه:

    " والذي نفسي بيده, لو وضعتم السيف فوق عنقي, ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها"..!!



    ويا ليت المسلمين استمعوا يومئذ لقوله ونصحه..

    اذن لما ماتت في مهدها تلك الفتن التي تفقم فيما بعد أمرها واستفحل خطرها, وعرّضت تادواة والمجتمع والاسلام لأخطار, ما كان أقساها من أخطار.

    والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة.. المكان الذي اختار الاقامة فيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه, فتعالوا بنا اليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع, ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام.

    ان هذه السيدة السمراء الضامرة, الجالسة الى جواره تبكي, هي زوجته..

    وانه ليسألها: فيم البكاء والموت حق..؟

    فتجيبه بأنها تبكي: " لأنك تموت, وليس عندي ثوب يسعك كفنا"..!!

    ".. لا تبكي, فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول: ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض, تشهده عصابة من المؤمنين..

    وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية, ولم يبق منهم غيري .. وهأنذا بالفلاة أموت, فراقبي الطريق,, فستطلع علينا عصابة من المؤمنين, فاني والله ما كذبت ولا كذبت".

    وفاضت روحه الى الله..

    ولقد صدق..

    فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء, تؤلف جماعة من المؤمنين, وعلى رأسهم عبدالله بن مسعود صاحب رسول الله.

    وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت, والى جواره سيدة وغلام يبكيان..

    ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد, ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان, حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر.

    وتفيض عيناه بالدمع, ويقف على جثمانه الطاهر يقول:" صدق رسول الله.. نمشي وحدك, وتموت وحدك, وتبعث وحدك".!

    ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها:" تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك"...



    **



    كان ذلك في غزوة تبوك.. سنة تسع من الهجرة, وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم, الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به.

    وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ..

    وكانت الشقة بعيدة.. والعدو مخيفا..

    ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين, تعللوا بشتى المعاذير..

    وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة, فجعل الرجل يتخلف, ويقولون يا رسول اللهتخلف فلان, فيقول:

    " دعوه.

    فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم..

    وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه"..!!

    وتلفت القوم ذات مرة, فلم يجدوا أبا ذر.. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام:

    لقد تخلف أبو ذر, وأبطأ به بعيره..

    وأعاد الرسول مقالته الأولى..

    كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه..

    وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد, ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير..

    ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر, فنزل من فوق ظهر البعير, وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه, مهرولا, وسط صحراء ملتهبة, كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه..



    وفي الغداة, وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا, بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير..

    وقال الذي رأى: يا رسول الله, هذا رجل يمشي على الطريق وحده..

    وقال الرسول عليه الصلاة والسلام:

    (كن أبا ذر)..



    وعادوا لما كانوا فيه من حديث, ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم, وعندها يعرفون من هو..



    وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا.. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا, وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة, ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين..

    وحين بلغ أول القافلة, صاح صائهحم: يار سول الله: انه والله أبا ذر..

    وسار أبو ذر صوب الرسول.

    ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية, وقال:

    [يرحم الله أبا ذر..

    يمشي وحده..

    ويموت وحده..

    ويبعث وحده..].



    وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد, مات أبو ذر وحيدا, في فلاة الربذة.. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده, وبطولة صموده..



    ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة, لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه..!!!


    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الخميس يوليو 08, 2010 10:41 pm





    أبو سفيان بن الحارث



    من الظلمات الى النور



    انه أبو سفيان آخر, غير أبو سفيان بن حرب..

    وان قصته, هي قصة الهدى بعد الضلال.. والحب بعد الكراهية..

    والسعادة بعد الشقوة..

    هي قصة رحمة الله الواسعة حين تفتح أبوابها اللاجئ ألقى نفسه بين يدي الله بعد أن أضناه طول اللغوب..!!

    تصوّروا بعد عشرين عاما قضاها ابن الحارث في عداوة موصولة للاسلام..!!

    عشرون عاما منذ بعث النبي عليه السلام, حتى اقترب يوم الفتح العظيم, وأبو سفيان بن الحارث يشدّ أزر قريش وحلفائها, ويهجو الرسول بشعره, ولا يكاد يتخلف عن حشد تحشده قريش لقتال..!!

    وكان اخوته الثلاثة: نوفل, وربيعة, وعبدالله قد سبقوه الى الاسلام..

    وأبو سفيان هذا, ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم, اذ هو ابن الحارث بن عبدالمطلب..

    ثم هو أخو النبي صلى الله عليه وسلم من الرضاعة, اذ أرضعته حليمة السعدية مرضعة الرسول بضعة أيام..

    وذات يوم نادته الأقدار لمصيره السعيد, فنادى ولده جعفرا, وقال لأهله: انا مسافران..

    الى أين يا بن الحارث..

    الى رسول الله لنسلم معه لله رب العالمين..

    ومضى يقطع الأرض بفرسه ويطويها طيّ التائبين..

    وعند الأبواء أبصر مقدمة جيش لجب. وأدرك أنه الرسول قاصدا مكة لفتحها.

    وفكّر ماذا يصنع..؟

    ان الرسول قد أهدر دمه من طول ما حمل سيفه ولسانه ضد الاسلام, مقاتلا وهاجيا..

    فاذا رآه أحد من الجيش, فسيسارع الى القصاص منه..

    وان عليه أن يحتال للأمر حتى يلقي نفسه بين يدي رسول الله أولا, وقبل أن تقع عليه عين أحد من المسلمين..

    وتنكّر أبو سفيان بن الحارث حتى أخفى معالمه, وأخذ بيد ابنه جعفر, وسار مشيا على الأقدام شوطا طويلا, حتى أبصر رسول الله قادما في كوكبة من أصحابه, فتنحّى حتى نزل الركب..

    وفجأة ألقى بنفسه أمام رسول الله مزيحا قناعه فعرفه الرسول, وحو ل وجهه عنه, فأتاه أبو سفيان من الناحية أخرى, فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم.

    وصاح أبو سفيانوولده جعفر:

    " نشهد أن لا اله الا الله

    ونشهد أن محمدا رسول الله".

    واقترب من النبي صلى الله عليه وسلم قائلا:

    " لا تثريب يا رسول الله"..

    وأجابه الرسول:

    " لا تثريب يا أبا سفيان.

    ثم أسلمه الى علي بن أبي طالب وقال له:

    " علم ابن عمّك الوضوء والسنة ورح به اليّ"..

    وذهب به علي ثم رجع فقال له الرسول:

    " ناد في الناس أن رسول الله قد رضي عن أبي سفيان فارضوا عنه"..

    لحظة زمن, يقول الله لها: كوني مباركة, فتطوي آمادا وأبعادا من الشقوة والضلال, وتفتح أبواب رحمة ما لها حدود..!!

    لقد كاد أبو سفيان يسلم, بعد أن رأى في بدر وهو يقاتل مع قريش ما حيّر لبّه..

    ففي تلك الغزوة تخلّف أبو لهب وأرسل مكانه العاص بن هشام..

    وانتظر أبو لهب أخبار المعركة بفارغ الصبر وبدأت الأنباء تأتي حاملة هزيمة قريش المنكرة..

    وذات يوم, أ[و لهب مع تفر من القرشيين يحلسون عند زمزم, اذ أبصروا فارسا مقبلا فلما دنا منهم اذا هو: أبو سفيان بن الحارث.. ولم يمهله أبو لهب, فناداه:" هلمّ اليّ يا بن أخي. فعندك لعمري الخبر.. حدثنا كيف كان أمر الناس"؟؟

    قال أبو سفيان بن الحارث:

    " والله نا هو الا أن أن لقينا القوم حتى منحناهم أكتافنا, يقتلوننا كيف شاءوا, ويأسروننا كيف شاءوا..

    وأيم الله ما لمت قريشا.. فلقد لقينا رجالا بيضا على خيل بلق, بين السماء والأرض, ما يشبهها شيء, ولا يقف أمامها شيء"..!!

    وأبو سفيان يريد بهذا أن الملائكة كانت تقاتل مع الرسول والمسلمين..

    فما باله لم يسلم يومئذ وقد رأى ما رأى..؟؟

    ان الشك طريق اليقين, وبقدر ما كانت شكوك أبي الحارث عنيدة وقوية, فان يقينه يوم يجيء سيكون صلبا قويا..

    ولقد جاء يوم يقينه وهداه.. وأسلم لله رب العالمين..



    **



    ومن أولى لحظات اسلامه, راح يسابق الزمان عابدا, ومجاهدا, ليمحو آثار ما ضيه, وليعوّض خسائره فيه..

    خرج مع الرسول فيما تلا فتح مكة من غزوات..

    ويوم حنين, حيث نصب المشركون للمسلمين كمينا خطيرا, وانقضوا عليهم فجأة من حيث لا يحتسبون انقضاضا وبيلا أطار صواب الجيش المسلم, فولّى أكثر أجناده الأدبار وثبت الرسول مكانه ينادي:

    " اليّ أيها الناس..

    أنا النبي لا كذب..

    انا ابن عبدالمطلب.."

    في تلك اللحظة الرهيبة, كانت هناك قلة لم تذهب بصوابها المفاجأة

    وكان منهم أبو سفيان بن الحارث وولده جعفر..

    ولقد كانأبو سفيان يأخذ بلجام فرس الرسول, وحين رأى ما رأى أدرك أن فرصته التي بحث عنها قد أهلت.. تلك أن يقضي نحبه شهيدا في سبيل الله, وبين يدي الرسول..

    وراح يتشبث بمقود الفرس بيسراه, ويرسل السيف في نحور المشركين بيمناه.

    وعاد المسلمون الى مكان المعركة حتى انتهت, وتملاه الرسول ثم قال:

    " أخي أبو سفيان بن الحارث..؟؟"

    ما كاد أبو سفيان يسمع قو الرسول " أخي"..

    حتى طار فؤاده من الفرح والشرف. فأكبّ على قدمي الرسول يقبلهما, ويغسلهما بدموعه.

    وتحرّكت شاعريته فراح يغبط نفسه على ما أنعم الله عليه من شجاعة وتوفيق:

    لقد علمت أفناء كعب وعامر غداة حنين حين عمّ التضعضع

    بأني أخو الهيجاء, أركب حدّها أمام رسول الله لا أتتعتع

    رجاء ثواب اللهوالله راحم اليه تعالى كل أمر سيرجع



    **



    وأقبل لأبو سفيان بن الحارث على العبادة اقبلال عظيما, وبعد رحيل الرسول عن الدنيا, تعلقت روحه بالموت ليلحق برسول الله في الدار الآخرة, وعاش ما عاش والموت أمنية حياته..

    وذات يوم شاهده الناس في البقيع يحفر لحدا, ويسويّه ويهيّئه.. فلما أبدوا دهشتهم مما يصنع قال لهم:

    " اني أعدّ قبري"..

    وبعد ثلاثة أيام لا غير, كان راقدا في بيته, وأهله من حوله يبكون..

    وفتح عينيه عليهم في طمأنينة سابغة وقال لهم:

    " لا تبكوا عليّ, فاني لم أتنظف بخطيئة منذ أسلمت"..!!

    وقبل أن يحني رأسه على صدره, لوّح به الى أعلى, ملقيا على الدنيا تحيّة الوداع..!!


    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الخميس يوليو 08, 2010 10:56 pm





    أبو عبيدة بن الجرّاح



    أمين هذه الأمة



    من هذا الذي أمسك الرسول بيمينه وقال عنه:

    " ان لكل أمة أمينا وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح"..؟

    من هذا الذي أرسله النبي في غزوة ذات السلاسل مددا اعمرو بن العاص, وجعله أميرا على جيش فيه أبو بكر وعمر..؟؟

    من هذا الصحابي الذي كان أول من لقب بأمير الأمراء..؟؟

    من هذا الطويل القامة النحيف الجسم, المعروق الوجه, الخفيف اللحية, الأثرم, ساقط الثنيتين..؟؟

    أجل من هذا القوي الأمين الذي قال عنه عمر بن الخطاب وهو يجود بأنفاسه:

    " لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيا لاستخلفته فان سالني ربي عنه قلت: استخافت أمين الله, وأمين رسوله"..؟؟

    انه أبو عبيدة عامر بن عبد الله الجرّاح..

    أسلم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأيام الأولى للاسلام, قبل أن يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم دار الرقم, وهاجر الى الحبشة في الهجرة الثانية, ثم عاد منها ليقف الى جوار رسوله في بدر, وأحد, وبقيّة المشاهد جميعها, ثم ليواصل سيره القوي الأمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة خليفته أبي بكر, ثم في صحبة أمير المؤمنين عمر, نابذا الدنيا وراء ظهره مستقبلا تبعات دينه في زهد, وتقوى, وصمود وأمانة.



    **



    عندما بايع أبو عبيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم, على أن ينفق حياته في سبيل الله, كان مدركا تمام الادراك ما تعنيه هذه الكلمات الثلاث, في سبيل الله وكان على أتم استعداد لأن يعطي هذا السبيل كل ما يتطلبه من بذل وتضحية..



    ومنذ بسط يمينه مبايعا رسوله, وهو لا يرى في نفسه, وفي ايّامه وفي حياته كلها سوى أمانة استودعها الله اياها لينفقها في سبيله وفي مرضاته, فلا يجري وراء حظ من حظوظ نفسه.. ولا تصرفه عن سبيل الله رغبة ولا رهبة..

    ولما وفّى أبو عبيدة بالعهد الذي وفى به بقية الأصحاب, رأى الرسول في مسلك ضميره, ومسلك حياته ما جعله أهلا لهذا اللقب الكريم الذي أفاءه عليه,وأهداه اليه, فقال عليه الصلاة والسلام:

    " أمين هذه الأمة, أبو عبيدة بن الجرّاح".



    **



    ان أمانة أبي عبيدة على مسؤولياته, لهي أبرز خصاله.. فففي غزوة أحد أحسّ من سير المعركة حرص المشركين, لا على احراز النصر في الحرب, بل قبل ذلك ودون ذلك, على اغتيال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم, فاتفق مع نفسه على أن يظل مكانه في المعركة قريبا من مكان الرسول..

    ومضى يضرب بسيفه الأمين مثله, في جيش الوثنية الذي جاء باغيا وعاديا يريد أن يطفئ نور الله..



    وكلما استدرجته ضرورات القتال وظروف المعركة بعيدا عن رسول الله صلى اله عليه وسلم قاتل وعيناه لا تسيران في اتجاه ضرباته.. بل هما متجهتان دوما الى حيث يقف الرسول صلى الله عليه وسلم ويقاتل, ترقبانه في حرص وقلق..

    وكلما تراءى لأبي عبيدة خطر يقترب من النبي صلى الله عليه وسلم, انخلع من موقفه البعيد وقطع الأرض وثبا حيث يدحض أعداء الله ويردّهم على أعقابهم قبل أن ينالوا من الرسول منالا..!!

    وفي احدى جولاته تلك, وقد بلغ القتال ذروة ضراوته أحاط بأبي عبيدة طائفة من المشركين, وكانت عيناه كعادتهما تحدّقان كعيني الصقر في موقع رسول الله, وكاد أبو عبيدة يفقد صوابه اذ رأى سهما ينطلق من يد مشرك فيصيب النبي, وعمل سيفه في الذين يحيطون به وكأنه مائة سيف, حتى فرّقهم عنه, وطار صواب رسول الله فرأى الدم الزكي يسيل على وجهه, ورأى الرسول الأمين يمسح الدم بيمينه وهو يقول:

    " كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم, وهو يدعهم الى ربهم"..؟

    ورأى حلقتين من حلق المغفر الذي يضعه الرسول فوق رأسه قد دخانا في وجنتي النبي, فلم يطق صبرا.. واقترب يقبض بثناياه على حلقة منهما حتى نزعها من وجنة الرسول, فسقطت ثنيّة, ثم نزع الحلقة الأخرى, فسقطت ثنيّة الثانية..

    وما أجمل أن نترك الحديث لأبي بكر الصدسق يصف لنا هذا المشهد بكلماته:

    " لما كان يوم أحد, ورمي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخلت في وجنته حلقتان من المغفر, أقبلت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وانسان قد أقبل من قبل المشرق يطير طيرانا, فقلت: اللهم اجعله طاعة, حتى اذا توافينا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم, واذا هو أبو عبيدة بن الجرّاح قد سبقني, فقال: أسألك بالله يا أبا بكر أن تتركني فأنزعها من وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم..

    فتركته, فأخذ أبو عبيدة بثنيّة احدى حلقتي المغفر, فنزعها, وسقط على الأرض وسقطت ثنيته معه..

    ثم أخذ الحلقة الأخرى بثنية أخرى فسقطت.. فكان أبو عبيدة في الناس أثرم."!!



    وأيام اتسعت مسؤوليات الصحابة وعظمت, كان أبو عبيدة في مستواها دوما بصدقه وبأمانته..

    فاذا أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخبط أميرا على ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من المقاتلين وليس معهم زاد سوى جراب تمر.. والمهمة صعبة, والسفر بعيد, استقبل ابو عبيدة واجبه في تفان وغبطة, وراح هو وجنوده يقطعون الأرض, وزاد كل واحد منهم طوال اليوم حفنة تملا, حتى اذا أوشك التمر أن ينتهي, يهبط نصيب كل واحد الى تمرة في اليوم.. حتى اذا فرغ التمر جميعا راحوا يتصيّدون الخبط, أي ورق الشجر بقسيّهم, فيسحقونه ويشربون عليه الامء.. ومن اجل هذا سميت هذه الغزوة بغزوة الخبط..

    لقد مضوا لا يبالون بجوع ولا حرمان, ولا يعنيهم الا أن ينجزوا مع أميرهم القوي الأمين المهمة الجليلة التي اختارهم رسول الله لها..!!



    **



    لقد أحب الرسول عليه الصلاة والسلام أمين الأمة أبا عبيدة كثيرا.. وآثره كثيرا...

    ويوم جاء وفد نجلاان من اليمن مسلمين, وسألوه أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن والسنة والاسلام, قال لهم رسول الله:

    " لأبعثن معكم رجلا أمينا, حق أمين, حق أمين.. حق أمين"..!!

    وسمع الصحابة هذا الثناء من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فتمنى كل منهم لو يكون هو الذي يقع اختيار الرسول عليه, فتصير هذه الشهادة الصادقة من حظه ونصيبه..

    يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

    " ما أحببت الامارة قط, حبّي اياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت الى الظهر مهجّرا, فلما صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم, ثم نظر عن يمينه, وعن يساره, فجعلت أتطاول له ليراني..

    فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجرّاح, فدعاه, فقال: أخرج معهم, فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه.. فذهب بها أبا عبيدة؟..!!

    ان هذه الواقعة لا تعني طبعا أن أبا عبيدة كان وحده دون بقية الأصحاب موضع ثقة الرسول وتقديره..

    انما تعني أنه كان واحدا من الذين ظفروا بهذه الثقة الغالية, وهذا التقدير الكريم..

    ثم كان الواحد أو الوحيد الذي تسمح ظروف العمل والدعوة يومئذ بغيابه عن المدينة, وخروجه في تلك المهمة التي تهيئه مزاياه لانجازها..

    وكما عاش أبو عبيدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أمينا, عاش بعد وفاة الرسول أمينا.. بحمل مسؤولياته في أمانة تكفي أهل الأرض لو اغترفوا منها جميعا..



    ولقد سار تحت راية الاسلام أنذى سارت, جنديّا, كأنه بفضله وباقدامه الأمير.. وأميرا, كأن بتواضعه وباخلاصه واحدا من عامة المقاتلين..

    وعندما كان خالد بن الوليد.. يقود جيوش الاسلام في احدى المعارك الفاصلة الكبرى.. واستهل أمير المؤمنين عمر عهده بتولية أبي عبيدة مكان خالد..



    لم يكد أبا عبيدة يستقبل مبعوث عمر بهذا الأمر الجديد, حتى استكتمه الخبر, وكتمه هو في نفسه طاويا عليه صدر زاهد, فطن, أمين.. حتى أتمّ القائد خالد فتحه العظيم..

    وآنئذ, تقدّم اليه في أدب جليل بكتاب أمير المؤمنين!!

    ويسأله خالد:

    " يرحمك الله يا أبا عبيدة.ز ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب"..؟؟

    فيجيبه أمين الأمة:

    " اني كرهت أن أكسر عليك حربك, وما سلطان الدنيا نريد, ولا للدنيا نعمل, كلنا في الله اخوة".!!!



    **



    ويصبح أبا عبيدة أمير الأمراء في الشام, ويصير تحت امرته أكثر جيوش الاسلام طولا وعرضا.. عتادا وعددا..

    فما كنت تحسبه حين تراه الا واحدا من المقاتلين.. وفردا عاديا من المسلمين..

    وحين ترامى الى سمعه أحاديث أهل الشام عنه, وانبهارهم بأمير الأمراء هذا.. جمعهم وقام فيهم خطيبا..

    فانظروا ماذا قال للذين رآهم يفتنون بقوته, وعظمته, وأ/انته..

    " يا أيها الناس..

    اني مسلم من قريش..

    وما منكم من أحد, أحمر, ولا أسود, يفضلني بتقوى الا وددت أني في اهابه"..ّّ

    حيّاك الله يا أبا عبيدة..

    وحيّا الله دينا أنجبك ورسولا علمك..

    مسلم من قريش, لا أقل ولا أكثر.

    الدين: الاسلام..

    والقبيلة: قريش.

    هذه لا غير هويته..

    أما هو كأمير الأمراء, وقائد لأكثر جيوش الاسلام عددا, وأشدّها بأسا, وأعظمها فوزا..

    أما هو كحاكم لبلاد الشام,أمره مطاع ومشيئته نافذة..

    كل ذلك ومثله معه, لا ينال من انتباهه لفتة, وليس له في تقديره حساب.. أي حساب..!!



    **



    ويزور أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الشام, ويسأل مستقبليه:

    أين أخي..؟

    فيقولون من..؟

    فيجيبهم: أبو عبيدة بن الجراح.

    ويأتي أبو عبيدة, فيعانقه أمير المؤمنين عمر.. ثم يصحبه الى داره, فلا يجد فيها من الأثاث شيئا.. لا يجد الا سيفه, وترسه ورحله..

    ويسأله عمر وهو يبتسم:

    " ألا اتخذت لنفسك مثلما يصنع الناس"..؟

    فيجيبه أبو عبيدة:

    " يا أمير المؤمنين, هذا يبلّغني المقيل"..!!



    **



    وذات يوم, وأمير المؤمنين عمر الفاروق يعالج في المدينة شؤن عالمه المسلم الواسع, جاءه الناعي, أن قد مات أبو عبيدة..

    وأسبل الفاروق جفنيه على عينين غصّتا بالدموع..

    وغاض الدمع, ففتح عينيه في استسلام..

    ورحّم على صاحبه, واستعاد ذكرياته معه رضي الله عنه في حنان صابر..

    وأعاد مقالته عنه:

    " لو كنت متمنيّا, ما تمنيّت الا بيتا مملوءا برجال من أمثال أبي عبيدة"..



    **



    ومات أمين الأمة فوق الأرض التي طهرها من وثنية الفرس, واضطهاد الرومان..

    زهناك اليوم تحت ثرى الأردن يثوي رفات نبيل, كان مستقرا لروح خير, ونفس مطمئنة..

    وسواء عليه, وعليك, أن يكون قبره اليوم معروف أو غير معروف..

    فانك اذا أردت أن تبلغه لن تكون بحاجة الى من يقودك اليه..

    ذلك أن عبير رفاته, سيدلك عليه..!!

    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الخميس يوليو 08, 2010 11:02 pm





    أبو موسى الأشعري



    الاخلاص.. وليكن ما يكون



    عندما بعثه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب الى البصرة, ليكون أميرها وواليها, جمع أهلها وقام فيهم خطيبا فقال:

    " ان أمير المؤمنين عمر بعثني اليكم, أعلمكم كتار بكم, وسنة نبيكم, وأنظف لكم طرقكم"..!!

    وغشي الانس من الدهش والعجب ما غشيهم, فانهم ليفهمون كيف يكون تثقيف الناس وتفقيههم في دينهم من واجبات الحاكم والأمير, أما أن يكون من واجباته تنظيف طرقاتهم, فذاك شيء جديد عليهم بل مثير وعجيب..

    فمن هذا الوالي الذي قال عنه الحسن رضي الله عنه:

    " ما أتى البصرة راكب خير لأهلها منه"..؟



    **



    انه عبدالله بن قيس المكنّى بـ أبي موسى الأشعري..

    غادر اليمن بلده ووطنه الى مكة فور سماعه برسول ظهر هناك يهتف بالتوحيد ويدعو الى الله على بصيرة, ويأمر بمكارم الأخلاق..

    وفي مكة, جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

    وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقى منه الهدى واليقين..

    وعاد الى بلاده يحمل كلمة الله, ثم رجع الى رسول الله صلى الله عليه وسلم اثر فراغه من فتح خيبر..

    ووافق قدومه قدوم جعفر بن أبي طالب مقبلا مع أصحابه من الحبشة فأسهم الرسول لهم جميعا..

    وفي هذه المرّة لم يأت أبو موسى الأشعري وحده, بل جاء معه بضعة وخمسون رجلا من أهل اليمن الذين لقنهم الاسلام, وأخوان شقيقان له, هم, أبو رهم, وأبو بردة..

    وسمّى الرسول هذا الوفد.. بل سمّى قومهم جميعا بالأشعريين..

    ونعتهم الرسول بأنهم أرق الناس أفئدة..

    وكثيرا ما كان يضرب المثل الأعلى لأصحابه, فيقول فيهم وعنهم:

    " ان الأشغريين اذا أرملوا في غزو, أو قلّ في أيديهم الطعام, جمعوا ما عندهم في ثوب واحد, ثم اقتسموا بالسويّة.

    " فهم مني.. وانا منهم"..!!

    ومن ذلك اليوم أخذ أبو موسى مكانه الدائم والعالي بين المسلمين والمؤمنين, الذين قدّر لهم أن يكونوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلامذته, وأن يكونوا حملة الاسلام الى الدنيا في كل عصورها ودهورها..



    **



    أبو موسى مزيج عجيب من صفات عظيمة..

    فهو مقاتل جسور, ومناضل صلب اذا اضطر لقتال..

    وهو مسالم طيب, وديع الى أقصى غايات الطيبة والوداعة..!!

    وهو فقيه, حصيف, ذكي يجيد تصويب فهمه الى مغاليق الأمور, ويتألق في الافتاء والقضاء, حتى قيل:

    " قضاة هذه الأمة أربعة:

    " عمر وعلي وأبو موسى وزيد بن ثابت"..!!

    ثم هو مع هذا, صاحب فطرة بريئة, من خدعه في الله, انخدع له..!!

    وهو عظيم الولاء والمسؤولية..

    وكبير الثقة بالناس..

    لو أردنا أن نختار من واقع حياته شعارا, لكانت هذه العبارة:

    " الاخلاص وليكن ما يكون"..

    في مواطن الجهاد, كان الأشعري يحمل مسؤولياته في استبسال مجيد مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلمي يقول عنه:

    " سيّد الفوارس, أبو موسى"..!!

    وانه ليرينا صورة من حياته كمقاتل فيقول:

    " خرجنا مع رسول الله في غزاة, نقبت فيها أقدامنا, ونقّبت قدماي, وتساقطت أظفاري, حتى لففنا أقدامنا بالخرق"..!!

    وما كانت طيبته وسلامة طويته ليغريا به عدوّا في قتال..

    فهو في موطن كهذا يرى الأمور في وضوح كامل, ويحسمها في عزم أكيد..



    ولقد حدث والمسلمون يفتحون بلاد فارس أن هبط الأشعري يجيشه على أهل أصبهان الذين صالحوه على الجزية فصالحهم..

    بيد أنهم في صلحهم ذاك لم يكونوا صادقين.. انما ارادوا أن يهيئوا لأنفسهم الاعداد لضربة غادرة..

    ولكن فطنة أبي موسى التي لا تغيب في مواطن الحاجة اليها كانت تستشف أمر أولئك وما يبيّتون.. فلما همّوا بضربتهم لم يؤخذ القائد على غرّة, وهنالك بارزهم القتال فلم ينتصف النهار حتى كان قد انتصر انتصارا باهرا..!!



    **



    وفي المعارك التي خاضها المسلمون ضدّ امبراطورية الفرس, كان لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه, بلاؤه العظيم وجهاده الكريم..

    وفي موقعة تستر بالذات, حيث انسحب الهرزمان بجيشه اليها وتحصّن بها, وجمع فيها جيوشا هائلة, كان أبو موسى بطل هذه الموقعة..

    ولقد أمدّه أمير المؤمنين عمر يومئذ بأعداد هائلة من المسلمين, على رأسهم عمار بن ياسر, والبراء بن مالك, وأنس بن مالك, ومجزأة البكري وسلمة بن رجاء..

    واتقى الجيشان..

    جيش المسلمين بقيادة أبو موسى.. وجيش الفرس بقيادة الهرزمان في معركة من أشد المعارك ضراوة وبأسا..

    وانسحب الفرس الى داخل مدينة تستر المحصنة..

    وحاصرها المسلمون أياما طويلة, حتى أعمل أبو موسى عقله وحيلته..

    وأرسل مائتي فارس مع عميل فارسي, أغراه أبو موسى بأن يحتال حتى يفتح باب المدينة, أمام الطليعة التي اختارها لهذه المهمة.

    ولم تكد الأبواب تفتح, وجنود الطليعة يقتحمون الحصن حتى انقض أبو موسى بجيشه انقضاضا مدمدما.

    واستولى على المعقل الخطير في ساعات. واستسلم قادة الفرس, حيث بعث بهم أبو موسى الى المدينة ليرى أمير المؤمنين فيهم رأيه..



    **



    على أن هذا المقاتل ذا المراس الشديد, لم يكن يغادر أرض المعركة حتى يتحوّل الى أوّاب, بكّاء وديع كالعصفور...

    يقرأ القرآن بصوت يهز أعماق من سمعه.. حتى لقد قال عنه الرسول:

    " لقد أوتي أبو موسى مزمارا من مزامير آل داود"..!

    كان عمر رضي الله عنه كلما رآه دعاه ليتلو عليه من كتاب الله.. قائلا له:

    " شوّقنا الى ربنا يا أبا موسى"..

    كذلك لم يكن يشترك في قتال الا أن يكون ضد جيوش مشركة, جيوش تقاوم الدين وتريد أن تطفئ نور الله..

    أما حين يكون القتال بين مسلم ومسلم, فانه يهرب منه ولا يكون له دور أبدا.

    ولقد كان موقفه هذا واضحا في نزاع عليّ ومعاوية, وفي الحرب التي استعر بين المسلمين يومئذ أوراها.

    ولعل هذه النقطة من الحديث تصلنا بأكثر مواقف حياته شهرة, وهو موقفه من التحكيم بين الامام علي ومعاوية.

    هذا الموقف الذي كثيرا ما يؤخذ آية وشاهدا على افراط أبي موسى في الطيبة الى حد يسهل خداعه.

    بيد أن الموقف كما سنراه, وبرغم ما عسى أن يكون فيه تسرّع أو خطأ, انما يكشف عن عطمة هذا الصحابي الجليل, عظمة نفسه, وعظمة ايمانه بالحق, وبالناس, ان راي أبي موسى في قضية التحكيم يتلخص في أنه وقد رأى المسلمين يقتل بعضهم بعضا, كل فريق يتعصب لامام وحاكم.. كما رأى الموقف بين المقاتلين قد بلغ في تأزمه واستحالة تصفيته المدى الذي يضع مصير الأمة المسلمة كلها على حافة الهاوية.

    نقول: ان رأيه وقد بلغت الحال من السوء هذا المبلغ, كان يتلخص في تغيير الموقف كله والبدء من جديد.

    ان الحرب الأهلية القائمة يوم ذاك انما تدور بين طائفتين من المسلمين تتنازعان حول شخص الحاكم, فليتنازل الامام علي عن الخلافة مؤقتا, وليتنازل عنها معاوية, على أن يرد الأمر كله من جديد الى المسلمين يختارون بطريق الشورى الخليفة الذي يريدون.

    هكذا ناقش أبو موسى القضية, وهكذا كان حله.

    صحيح أن عليّا بويع بالخلافة بيعة صحيحة.

    وصحيح أن كل تمرد غير مشروع لا ينبغي أن يمكّن من غرضه في اسقاط الحق المشروع. بيد أن الأمور في النزاع بين الامام ومعاوية وبين أهل العراق وأهل الشام, في رأي أبي موسى, قد بلغت المدى الذي يفرض نوعا جديدا من التفكير والحلول.. فعصيان معاوية, لم يعد مجرّد عصيان.. وتمرّد أهل الشام لم يعد مجرد تمرد.. والخلاف كله يعود مجرد خلاف في الرأي ولا في الاختيار..

    بل ان ذلك كله تطوّر الى حرب أهلية ضارية ذهب ضحيتها آلاف القتلى من الفريقين.. ولا تزال تهدد الاسلام والمسلمين بأسوأ العواقب.

    فازاحة أسباب النزاع والحرب, وتنحية أطرافه, مثّلا في تفكير أبي موسى نقطة البدء في طريق الخلاص..

    ولقد كان من رأي الامام علي حينما قبل مبدأ التحكيم, أن يمثل جبهته في التحكيم عبدالله بن عباس, أو غيره من الصحابة. لكن فريقا كبيرا من ذوي البأس في جماعته وجيشه فرضا عليه أبا موسى الأشعري فرضا.

    وكانت حجتهم في اختيار أبا موسى أنه لم يشترك قط في النزاع بين علي ومعاوية, بل اعتزل كلا الفريقين بعد أن يئس من حملهما على التفاهم والصلح ونبذ القتال. فهو بهذه المثابة أحق الناس بالتحكيم..

    ولم يكن في دين أبي موسى, ولا في اخلاصه وصدقه ما يريب الامام.. لكنه كان يدرك موايا الجانب الآخر ويعرف مدى اعتمادهم على المناورة والخدعة. وأبو موسى برغم فقهه وعلمه يكره الخداع والمناورة, ويحب أن يتعامل مع الناس بصدقه لا بذكائه. ومن ثم خشي الامام علي أن ينخدع أبو موسى للآخرين, ويتحول التحكيم الى مناورة من جانب واحد, تزيد الأمور سوءا...



    **



    بدأ التحيكم بين الفريقين..

    أبو موسى الأشعري يمثل جبهة الامام علي..

    وعمرو بن العاص, يمثل جانب معاوية.

    والحق أن عمرو بن العاص اعتمد على ذكائه الحاد وحيلته الواسعة في أخذ الراية لمعاوية.

    ولقد بدأ الاجتماع بين الرجلين, الأشعري, وعمرو باقتراح طرحه أبو موسى وهو أن يتفق الحكمان على ترشيح عبدالله بن عمر بل وعلى اعلانه خليفة للمسلمين, وذلك لما كان ينعم به عبدالله بن عمر من اجماع رائع على حبه وتوقيره واجلاله.

    ورأى عمرو بن العاص في هذا الاتجاه من أبي موسى فرصة هائلة فانتهزها..

    ان مغزى اقتراح أبي موسى, أنه لم يعد مرتبطا بالطرف الذي يمثله وهو الامام علي..

    ومعناه أيضا أنه مستعد لاسناد الخلافة الى آخرين من أصحاب الرسول بدليل أنه اقترح عبدالله بن عم..

    وهكذا عثر عمرو بدهائه على مدخل فسيح الى غايته, فراح يقترح معاوية.. ثم اقترح ابنه عبدالله بن عمرو وكان ذا مكانة عظيمة بين أصحاب رسول الله.

    ولك يغب ذكاء أبي موسى أمام دهاء عمرو.. فانه لم يكد يرى عمرا يتخذ مبدأ الترشيح قاعدة الترشيح للحديث والتحكيم حتى لوى الزمام الى وجهة أسلم, فجابه عمرا بأن اختيار الخليفة حق للمسلمين جميعا, وقد جعل الله أمرهم شورى بينهم, فيجب أن يترك الأمر لهم وحدهم وجميعهم لهم الحق في هذا الاختيار..

    وسوف نرى كيف استغل عمرو هذا المبدأ الجليا لصالح معاوية..

    ولكن قبل ذلك لنقرأ نص الحوار التاريخي الذي دار بين أبي موسى وعمرو بن العاص في بدء اجتماعهما:

    أبو موسى: يا عمرو, هل لك في صلاح الأمة ورضا الله..؟

    عمرو: وما هو..؟

    أبو موسى: نولي عبدالله بن عمر, فانه لم يدخل نفسه في شيء من هذه الحرب.

    عمرو: وأين أنت من معاوية..؟

    أبو موسى: ما معاوية بموضع لها ولا يستحقها.

    عمرو: ألست تعلم أن عثمان قتل مظلموا..؟

    أبو موسى: بلى..

    عمرو: فان معاوية وليّ دم عثمان, وبيته في قريش ما قد علمت. فان قال الناس لم أولي الأمر ولست سابقة؟ فان لك في ذلك عذرا. تقول: اني وجدته ولي عثمان, والله تعالى يقول: ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا).. وهو مع هذا, اخو أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم, وهو أحد أصحابه..

    أبو موسى: اتق الله يا عمرو..

    أمّا ما ذكرت من شرف معاوية, فلو كانت الخلافة تستحق بالشرف لكان أحق الناس بها أبرهة بن الصبّاح فانه من أبناء ملوك اليمن التباعية الذين ملكوا شرق الأرض ومغربها.. ثم أي شرف لمعاوية مع علي بن أبي طالب..؟؟

    وأما قولك: ان معاوية ولي عثمان, فأولى منه عمرو بن عثمان..

    ولكن ان طاوعتني أحيينا سنة عمر بن الخطاب وذكره, بتوليتنا ابنه عبدالله الحبر..

    عمرو: فما يمنعك من ابني عبدالله مع فضله وصلاحه وقديم هجرته وصحبته..؟

    أبو موسى: ان ابنك رجل صدق, ولكنك قد غمسته في هذه الحروب غمسا, فهلم نجعلها للطيّب بن الطيّب.. عبدالله بن عمر..

    عمرو: يا أبا موسى, انه لا يصلح لهذا الأمر الا رجل له ضرسان يأكل بأحدهما, ويطعم بالآخر..!!

    أبو موسى: ويحك يا عمرو.. ان المسلمين قد أسندوا الينا الأمر بعد أن تقارعوا السيوف, وتشاكوا بالرماح, فلا نردهم في فتنة.

    عمرو: فماذا ترى..؟أبو موسى: أرى أن نخلع الرجلين, عليّا ومعاوية, ثم نجعلها شورى بين المسلمين, يختارون لأنفسهم من يحبوا..

    عمرو: رضيت بهذا الرأي فان صلاح النفوس فيه..

    ان هذا الحوار يغير تماما وجه الصورة التي تعوّدنا أن نرى بها أبا موسى الأشعري كلما ذكرنا واقعة التحكيم هذه..

    ان أبا موسى كان أبعد ما يكون عن الغفلة..

    بل انه في حواره هذا كان ذكاؤه أكثر حركة من ذكاء عمرو بن العاص المشهور بالذكاء والدهاء..

    فعندما أراد عمرو أن يجرّع أبا موسى خلافة معاوية بحجة حسبه في قريش, وولايته لدم عثمان, جاء رد أبي موسى حاسما لامعا كحد السيف..

    اذا كانت الخلافة بالشرف, فأبرهة بن الصباح سليل الملوك أولى بها من معاوية..

    واذا كانت بدم عثمان والدفاع عن حقه, فابن عثمان رضي الله عنه, اولى بهذه الولاية من معاوية..



    **



    لقد سارت قضية التحيكم بعد هذا الحوار في طريق يتحمّل مسؤليتها عمرو بن العاص وحده..

    فقد أبرأ أبو موسى ذمته بردّ الأمر الى الأمة, تقول كلمتها وتخنار خليفتها..

    ووافق عمرو والتزم بهذا الرأي..

    ولم يكن يخطر ببال أبي موسى أن عمرو في هذا الموقف الذي يهدد الاسلام والمسلمين بشر بكارثة, سيلجأ الى المناورة, هما يكن اقتناعه بمعاوية..

    ولقد حذره ابن عباس حين رجع اليهم يخبرهم بما تم الاتفاق عليه..

    حذره من مناورات عمرو وقال له:

    " أخشى والله أن يكون عمرو قد خدعك, فان كنتما قد اتفقتما على شيء فقدمه قبلك ليتكلم, ثم تكلم أنت بعده"..!

    لكن أبا موسى كان يرى الموقف أكبر وأجل من أن يناور فيه عمرو, ومن ثم لم يخالجه أي ريب أوشك في التزام عمرو بما اتفقنا عليه..

    واجتمعا في اليوم التالي.. أبو موسى ممثلا لجبهة الامام علي, وعمرو بن العاص ممثلا لجبهة معاوية..

    ودعا أبو موسى عمرا ليتحدث.. فأبى عمرو وقال له:


    " ما كنت لأتقدمك وأنت أكثر مني فضلا.. وأقدم هجرة.. وأكبر سنا"..!!

    وتقد أبو موسى واستقبل الحشود الرابضة من كلا الفريقين.

    وقال:

    " أيها الناس.. انا قد نظنا فيما يجمع الله به ألفة هذه الأمة, ويصلح أمرها, فلم نر شيئا أبلغ من خلع الرجلين علي ومعاوية, وجعلها شورى يختار الناس لأنفسهم من يرونه لها..

    واني قد خلعت عليا ومعاوية..

    فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من أحببتم"...

    وجاء دور عمرو بن العاص ليعلن خلع معاوية, كما خلع أبو موسى عليا, تنفيذا للاتفاق المبرم بالأمس...

    وصعد عمرو المنبر, وقال:

    " أيها الناس, ان أبا موسى قد قال كما سمعتم وخلع صاحبه,

    ألا واني قد خلعت صاحبه كما خلعه, وأثبت صاحبي معاوية, فانه ولي أمير المؤمنين عثمان والمطالب بدمه, وأحق الناس بمقامه.."!!

    ولم يحتمل أبو موسى وقع المفاجأة, فلفح عمرا بكلمات غاضبة ثائرة..

    وعاد من جديد الى عزلته, وأغذّ خطاه الى مكة.. الى جوار البيت الحرام, يقضي هناك ما بقي له من عمر وأيام..

    كان أبو موسى رضي الله عنه موضع ثقة الرسول وحبه, وموضع ثقة خلفائه واصحابه وحبهم...

    ففيحياته عليه الصلاة والسلام ولاه مع معاذ بن جبل أمر اليمن..

    وبعد وفاة الرسول عاد الى المدينة ليجمل مسؤولياته في الجهاد الكبير الذي خاضته جيوش الاسلام ضد فارس والروم..

    وفي عهد عمر ولاه أمير المؤمنين البصرة..

    وولاه الخليفة عثمان الكوفة..



    **



    وكان من أهل القرآن, حفظا, وفقها, وعملا..

    ومن كلماته المضيئة عن القرآن:

    " اتبعوا القرآن..

    ولا تطمعوا في أن يتبعكم القرآن"..!!

    وكان من اهل العبادة المثابرين..

    وفي الأيام القائظة التي يكاد حرّها يزهق الأنفاس, كنت تجد أبا موسى يلقاها لقاء مشتاق ليصومها ويقول:

    " لعل ظمأ الهواجر يكون لنا ريّا يوم القيامة"..



    **



    وذات يوم رطيب جاءه أجله..

    وكست محيّاه اشراقة من يرجو رحمة الله وحسن ثوابه.ز

    والكلمات التي كان يرددها دائما طوال حياته المؤمنة, راح لسانه الآن وهو في لحظات الرحيل يرددها.ز

    تلك هي:

    " اللهم أنت السلام..ومنك السلام"...

    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الجمعة يوليو 09, 2010 4:38 am





    أبو هريرة



    ذاكرة عصر الوحي



    صحيح أن ذكاء المرء محسوب عليه..

    وأصحاب المواهب الخارقة كثيرا ما يدفعون الثمن في نفس الوقت الذي كان ينبغي أن يتلقوا فيه الجزاء والشكران..!!

    والصحابي الجليل أبو هريرة واحد من هؤلاء..

    فقد كان ذا موهبة خارقة في سعة الذاكرة وقوتها..

    كان رضي الله عنه يجيد فنّ الاصغاء, وكانت ذاكرته تجيد فن الحفظ والاختزان..

    يسمع فيعي, فيحفظ, ثم لا يكاد ينسى مما وعى كلمة ولا حرفا مهما تطاول العمر, وتعاقبت الأيام..!!

    من أجل هذا هيأته موهبته ليكون أكثر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حفظا لأحاديثه, وبالتالي أكثرهم رواية لها.



    فلما جاء عصر الوضّاعين الذين تخصصوا في الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, اتخذوا أبا هريرة غرضا مستغلين أسوأ استغلال سمعته العريضة في الرواية عن رسول الله عليه السلام موضع الارتياب والتساؤول. لولا تلك الجهود البارة والخارقة التي بذلها أبرار كبار نذور حياتهم وكرّسوها لخدمة الحديث النبوي ونفي كل زيف ودخيل عنه.

    هنالك نجا أبو هريرة رضي الله عنه من أخطبوط الأكاذيب والتلفيقات التي أراد المفسدون أن يتسللوا بها الى الاسلام عن طريقه, وأن يحمّلوه وزرها وأذاها..!!



    **



    والآن.. عندما نسمع واعظا, أو محاضرا, أو خطيب جمعة يقول تلك العبارة المأثورة:" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم..".

    أقول: عندما تسمع هذا الاسم على هذه الصورة, أ, عندما تلقاه كثيرا, وكثيرا جدّا في كتب الحديث, والسيرة والفقه والدين بصفة عامة, فاعلم أنك تلقى شخصية من أكثر شخصيات الصحابة اغراء بالصحبة والاصغاء..

    ذلك أن ثروته من الأحاديث الرائعة, والتوجيهات الحكيمة التي حفظها عن النبي عليه السلام, قلّ أن يوجد لها نظير..

    وانه رضي الله عنه بما يملك من هذه الموهبة, وهذه الثروة, لمن أكثر الأصحاب مقدرة على نقلك الى تلك الأيام التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم, والى التحليق بك, اذا كنت وثيق الايمان مرهف النفس, في تاك الآفاق التي شهدت روائع محمد وأصحابه, تعطي الحياة معناها, وتهدي اليها رشدها ونهاها.

    واذا كانت هذه السطور قد حرّكت أشواقك لأن تتعرّف لأبي هريرة وتسمع من أنبائه نبأ, فدونك الآن وما تريد..

    انه واحد من الذين تنعكس عليهم ثروة الاسلام بكل ما أحدثته من تغيرات هائلة.

    فمن أجير الى سيّد..

    ومن تائه في الزحام, الى علم وامام..!!

    ومن ساجد أمام حجارة مركومة, الى مؤمن بالله الواحد القهار..

    وهاهو ذا يتحدّث ويقول:

    " نشأت يتيما, وهاجرت مسكينا.. وكنت أجيرا لبسرة بنت غزوان بطعام بطني..!!

    كنت أخدمهم اذا نزلوا, وأحدو لهم اذا ركبوا..

    وهأنذا وقد زوّجنيها الله, فالحمد لله الذي جعل الدين قواما, وجعل أبا هريرة اماما"..!

    قدم على النبي عليه الصلاة والسلام سنة سبع وهو بخيبر, فأسلم راغبا مشتاقا..

    ومنذ رأى النبي عليه الصلاة والسلام وبايعه لم يكد يفارقه قط الا في ساعات النوم..

    وهكذا كانت السنوات الأربع التي عاشها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم الى أن ذهب النبي الى الرفيق الأعلى.

    نقول: كانت تلك السنوات الأربع عمرا وحدها.. كانت طويلة عريضة, ممتلئة بكل صالح من القول, والعمل, والاصغاء.



    **



    أدرك أبو هريرة بفطرته السديدة الدور الكبير الذي يستطيع أن يخدم به دين الله.

    ان أبطال الحرب في الصحابة كثيرون..

    والفقهاء والدعاة والمعلمون كثيرون.

    ولكن البيئة والجماعة تفتقد الكتابة والكتّاب.

    ففي تلك العصور, وكانت الجماعة الانسانية كلها, لا العرب وحدهم, لا يهتمون بالكتابة, ولم تكن الكتابة من علامات التقدم في مجتمع ما..

    بل انّ أوروبا نفسها كانت كذلك منذ عهد غير بعيد.

    وكان أكثر ملوكها وعلى رأسهم شارلمان أميّين لا يقرءون ولا يكتبون, مع أنهم في نفس الوقت كانوا على حظ كبير من الذكاء والمقدرة..



    **



    نعود الى حديثنا لنرى أبا هريرة يدرك بفطرته حاجة المجتمع الجديد الذي يبنيه الاسلام الى من يحفظن تراثه وتعاليمه, كان هناك يومئذ من الصحابة كتّاب يكتبون ولكنهم قليلون, ثم ان بعضهم لا يملك من الفراغ ما يمكّنه من تسجيل كل ما ينطق به الرسول من حديث.

    لم يكن أبا هريرة كاتبا, ولكنه كان حافظا, وكان يملك هذا الفراغ, أو هذا الفراغ المنشود, فليس له أرض يزرعها ولا تجارة يتبعها!!

    وهو اذا رأى نفسه وقد أسلم متأخرا, عزم على أن يعوّض ما فاته, وذلك بأن يواظب على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى مجالسته..

    ثم انه يعرف من نفسه هذه الموهبة التي أنعم الله بها عليه, وهي ذاكرته الرحبة القوية, والتي زادت مضاء ورحابة وقوة, بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها أن يبارك الله له فيها..

    فلماذا اذن لا يكون واحدا من الذين يأخذون على عاتقهم حفظ هذا التراث ونقله لللأجيال..؟؟

    أجل.. هذا دوره الذي تهيئه للقيام به مواهبه, وعليه أن يقوم به في غير توان..



    **



    ولم يكن أبو هريرة ممن يكتبون, ولكنه كان كما ذكرنا سريع الحفظ قوي الذاكرة..

    ولم تكن له أرض يزرعها, ولا تجارة تشغله, ومن ثمّ لم يكن يفارق الرسول في سفر ولا في حضر..

    وهكذا راح يكرّس نفسه ودقة ذاكرته لحفظ أحاديث رسول الله عليه الصلاة والسلام وتوجيهاته..

    فلما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى, راح أبو هريرة يحدث, مما جعل بعض أصحابه يعجبون: أنّى له كل هذه الحاديث, ومتى سمعها ووعاها..

    ولقد ألقى أبوهريرة رضي الله عنه الضوء على هذه الظاهرة, وكانه يدفع عن نفسه مغبة تلك الشكوك التي ساورت بعض أصحابه فقال:

    " انكم لتقولون أكثر أبو هريرة في حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم..

    وتقولون: ان المهاجرين الذين سبقوه الى الاسلام لا يحدثون هذه الأحاديث..؟؟

    ألا ان أصحابي من المهاجرين, كانت تشغلهم صفقاتهم بالسوق, وان أصحابي من الأنصار كانت تشغلهم أرضهم..

    واني كنت أميرا مسكينا, أكثر مجالسة رسول الله, فأحضر اذا غابوا, وأحفظ اذا نسوا..

    وان النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا يوما فقال: من يبسط رداءه حتى يفرغ من حديثي ثم يقبضه اليه فلا ينسى شيئا كان قد سمعه مني..! فبسطت ثزبي فحدثني ثم ضممته اليّ فوالله ما كنت نسيت شيئا سمعته منه..

    وأيم والله, لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا, وهي:

    ( ان الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيّناه للناس في الكتاب, أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون)..".





    هكذا يفسر أبو هريرة سر تفرّده بكثرة الرواية عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

    فهو أولا كان متفرغا لصحبة النبي أكثر من غيره..

    وهو ثانيا كان يحمل ذاكرة قوية, باركها الرسول فزادت قوة..

    وهو ثالثا لا يحدّث رغبة في أن يحدّث, بل لأن افشاء هذه الأحاديث مسؤولية دينه وحياته, والا كان كاتما للخير والحق, وكان مفرطا ينتظره جزاء المفرّطين..

    من أجل هذا راح يحدّث ويحدّث, لا يصدّه عن الحديث صادّ, ولا يعتاقه عائق.. حتى قال له عمر يوما وهو أمير المؤمنين:

    " لتتركنّ الحديث عن رسول الله,أو لألحقنك بأرض دوس"..

    أي أرض قومه وأهله..

    على أن هذا النهي من أمير المؤمنين لا يشكل اتهاما لأبي هريرة, بل هو دعم لنظرية كان عمر يتبنّاها ويؤكدها, تلك هي: أن على المسلمين في تلك الفترة بالذات ألا يقرؤوا, وألا يحفظوا شيئا سوى القرآن حتى يقرّ وثبت في الأفئدة والعقول..

    فالقرآن كتاب الله, ودستور الاسلام, وقاموس الدين, وكثرة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا سيما في تلك التي أعقبت وفاته عليه الصلاة والسلام, والتي يجمع القرآن خلالها قد تسبب بلبلة لا داعي لها ولا جدوى منها..

    من أجل هذا كان عمر يقول:

    " اشتغلوا بالقرآن, فان القرآن كلام الله"..

    ويقول:

    " أقلوا الرواية عن رسول الله الا فيما يعمل به"..

    وحين أرسل أبو موسى الأشعري الى العراق قال له:

    " انك تأتي قوما لهم في مساجدهم دويّ القرآن كدويّ النحل, فدعهم على ما هم عليه, ولا تشغلهم بالحديث, وأنا شريكك في ذلك"..

    كان القرآن قد جمع بطريقة مضمونة دون أن يتسرب اليه ما ليس منه..

    اما الأحاديث فليس يضمن عمر أن تحرّف أو تزوّر, أو تخذ سبيل للكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, والنيل من الاسلام..

    وكان أبو هريرة يقدّر وجهة نظر عمر, ولكنه أيضا كان واثقا من نفسه ومن أمانته, وكان لا يريد أن يكتم من الحديث والعلم ما يعتقد أن كتمانه اثم وبوار.

    وهكذا.. لم يكن يجد فرصة لافراغ ما في صدره من حديث سنعه ووعاه الا حدّث وقال..



    **



    على أن هناك سببا هامّا, كان له دور في اثارة المتاعب حول أبي هريرة لكثرة تحدثه وحديثه.

    ذلك أنه كان هناك يومئذ محدّث آخر يحدّث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويكثر ويسرف, ولم يكن المسلمون الأصحاب يطمئنون كثيرا لأحاديثه ذلكم هو كعب الأحبار الذي كان يهوديا وأسلم.



    **



    أراد مروان بن الحكم يوما أن يبلو مقدرة أبي هريرة على الحفظ, فدعاه اليه وأجلسه معه, وطلب منه أن يحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, في حين أجلس كاتبه وراء حجاب, وأمره أن يكتب كل ما يقول أبو هريرة..

    وبعد مرور عام, دعاه مروان بن الحكم مرة أخرى, أخذ يستقرئه نفس الأحاديث التي كان كاتبه قد سطرها, فما نسي أبو هريرة كلمة منها!!

    وكان يقول عن نفسه:

    " ما من أحد من أصحاب رسول الله أكثر حديثا عنه مني, الا ما كان من عبدالله بن عمرو بن العاص, فانه كان يكتب, ولا أكتب"..

    وقال عنه الامام الشافعي أيضا:

    " أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره".

    وقال البخاري رضي الله عنه:

    " روي عن أبو هريرة مدرسة كبيرة يكتب لها البقاء والخلود..

    وكان أبو هريرة رضي الله عنه من العابدين الأوّابين, يتناوب مع زوجته وابنته قيام الليل كله.. فيقوم هو ثلثه, وتقوم زوجته ثلثه, وتقوم ابنته ثلثله. وهكذا لا تمر من الليل ساعة الا وفي بيت أبي هريرة عبادة وذكر وصلاة!!

    وفي سبيل أن يتفرّغ لصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عانى من قسوة الجوع ما لم يعاني مثله أحد..

    وانه ليحدثنا: كيف كان الجوع يعض أمعاءه فيشدّ على بطمه حجرا ويعتصر كبده بيديه, ويسقط في المسجد وهو يتلوى حتى يظن بعض أصحابه أن به صرعا وما هو بمصروع..!

    ولما أسلم لم يكن يئوده ويضنيه من مشاكل حياته سوى مشكلة واحدة لم يكن رقأ له بسببها جفن..

    كانت هذه المشكلة أمه: فانها يومئذ رفضت أن تسلم..

    ليس ذلك وحسب, بل كلنت تؤذي ابنها في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتذكره بسوء..

    وذات يوم أسمعت أبا هريرة في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكره, فانفضّ عنها باكيا محزونا, وذهب الى مسجد الرسول..



    ولنصغ اليه وهو يروي لنا بقيّة النبأ:

    ".. فجئت الى رسول الله وأنا أبكي, فقلت: يا رسول الله, كنت أدعو أم أبي هريرة الى الاسلام فتأبى علي, واني دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره, فادع الله أن يهدي أم أبا هريرةالى الاسلام..

    فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة..

    فخرجت أعدو أبشرها بدعاء رسول الله, فلما أتيت الباب اذا هو مجاف, أي مغلق, وسمعت خضخضة ماء, ونادتني يا أبا هريرة مكانك..

    ثم لبست درعها, وعجلت عن خمارها وخرجت وهي تقول: أشهد أن لا اله الا الله, وأِهد أن محمدا عبده ورسوله..

    فجئت أسعى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبكي من الفرح, كما بكيت من الحزن, وقلت: أبشر يا رسول الله, فقد أجاب الله دعوتك..

    قد هدى أم أبي هريرة الى الاسلام..

    ثم قلت يا رسول الله: ادع الله أن يحبّبني وأمي الى المؤمنين والمؤمنات..

    فقال: اللهم حبّب عبيدك هذا وأمه الى كل مؤمن ومؤمنة"..



    **



    وعاش أبو هريرة عابدا, ومجاهدا.. لا يتخلف عن غزوة ولا عن طاعة.

    وفي خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاه امارة البحرين.

    وعمر كما نعلم شديد المحاسبة لولاته.

    اذا ولّى أحدهم وهو يملك ثوبين, فيجب أن يترك الولاية وهو لا يملك من دنياه سوى ثوبيه.. ويكون من الأفضل أن يتركها وله ثوب واحد..!!!

    أما اذا خرج من الولاية وقد ظهرت عليه أعراض الثراء, فآنئذ لا يفلت من حساب عمر, مهما يكن مصدر ثرائه حلالا مشروعا!



    دنيا أخرى.. ملاءها همر روعة واعجازا..!!

    وحين وليّ أبو هريرة البحرين ادّخر مالا, من مصادره الحلال, وعلم عمر فدعاه الى المدينة..



    ولندع أبو هريرة يروي لنا ما حدث بينهما من حوار سريع:

    " قال لي عمر:

    يا عدو الله وعدو كتابه, أسرقت مال الله..؟؟

    قلت:

    ما أنا بعدو لله ولا عدو لكتابه,.. لكني عدو من عاداهما..

    ولا أنا من يسرق مال الله..!

    قال:

    فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف..؟؟

    قلت:

    خيل لي تناسلت, وعطايا تلاحقت..

    قال عمر: فادفعها الى بيت مال المسلمين"..!!

    ودفع أبو هريرة المال الى عمر ثم رفع يديه الى السماء وقال:

    اللهم اغفر لأمير المؤمنين"..



    وبعد حين دعا عمر أبا هريرة, وعرض عليه الولاية من حديد, فأباها واعتذر عنها..

    قال له عمر: ولماذا؟

    قال أبو هريرة:

    حتى لا يشتم عرضي, ويؤخذ مالي, ويضرب ظهري..

    ثم قال:

    وأخاف أن أقضي بغير علم

    وأقول بغير حلم..



    **



    وذات يوم اشتد شوقه الى لقاء الله..

    وبينما كان عوّاده يدعون له بالشفاء من مرضه, كان هو يلحّ على الله قائلا:

    " اللهم اني أحب لقاءك, فأحب لقائي"..

    وعن ثماني وسبعين سنة مات في العام التاسع والخمسين للهجرة.

    ولبن ساكني البقيع الأبرار ب\تبوأ جثمانه الوديع مكانا مباركا..

    وبينما كان مشيعوه عائدين من جنازته, كانت ألسنتهم ترتل الكثير من الأحاديث التي حفظها لهم عن رسولهم الكريم.

    ولعل واحدا من المسلمين الجدد كان يميل على صاحبه ويسأله:

    لماذا كنّى شيخنا الراحل بأبي هريرة..؟؟



    فيجيبه صاحبه وهو الخبير بالأمر:

    لقد كان اسمه في الجاهلية عبد شمس, ولما أسلك سمّاه الرسول عبدالرحمن.. ولقد كان عطوفا على الحيوان, واكنت له هرة, يطعمها, ويحملها, وينظفها, ويؤويها.. وكانت تلازمه كظله..

    وهكذا دعي: أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه..

    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الجمعة يوليو 09, 2010 4:41 am




    أبوالدرداء



    أيّ حكيم كان



    بينما كانت جيوش الاسلام تضرب في مناكب الأرض.. هادر ظافرة.. كان يقيم بالمدينة فيلسوف عجيب.. وحكيم تتفجر الحكمة من جوانبه في كلمات تناهت نضرة وبهاء...وكان لا يفتأ يقول لمن حوله:

    " ألا أخبركم بخير أعمالكم, وأزكاها عند باريكم, وأنماها في درجاتكم, وخير من أن تغزو عدوّكم, فترضبوا رقابهم ويضربوا رقابكم, وخير من الدراهم والدنانير".؟؟

    وتشرئب أعناق الذين ينصتون له.. ويسارعون بسؤاله:

    " أي شيء هو.. يا أبا الدرداء"..؟؟

    ويستأنف أبو الدرداء حديثه فيقول ووجهه يتألق تحت أضوء الايمان والحكمة:

    " ذكر الله...

    ولذكر الله أكبر"..



    **



    لم يكن هذا الحكيم العجيب يبشر بفلسفة انعزالية ولم يكن بكلماته هذه يبشر بالسلبية, ولا بالانسحاب من تبعات الدين الجديد.. تلك التبعات التي يأخذ الجهاد مكان الصدارة منها...

    أجل.. ما كان أبو الدرداء ذلك الرجل, وهو الذي حمل سيفه مجاهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم, حتى جاء نصر الله والفتح..

    بيد أنه كان من ذلك الطراز الذي يجد نفسه في وجودها الممتلئ الحيّ, كلما خلا الى التأمل, وأوى الى محراب الحكمة, ونذر حياته لنشدان الحقيقة واليقين..؟؟

    ولقد كان حكيم تلك الأيام العظيمة أبو الدرداء رضي الله عنه انسانا يتملكه شوق عارم الى رؤية الحقيقة واللقاء بها..



    واذ قد آمن بالله وبرسوله ايمانا وثيقا, فقد آمن كذلك بأن هذا الايمان بما يمليه من واجبات وفهم, هو طريقه الأمثل والأوحد الى الحقيقة..

    وهكذا عكف على ايمانه مسلما الى نفسه, وعلى حياته يصوغها وفق هذا الايمان في عزم, ورشد, وعظمة..

    ومضى على الدرب حتى وصل.. وعلى الطريق حتى بلغ مستوى الصدق الوثيق.. وحتى كان يأخذ مكانه العالي مع الصادقين تماما حين يناجي ربه مرتلا آته..

    ( ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العلمين).

    أجل.. لقد انتهى جهاد أبي الدرداء ضدّ نفسه, ومع نفسه الى تلك الذروة العالية.. الى ذلك التفوق البعيد.. الى ذلك التفاني الرهباني, الذي جعل حياته, كل حياته لله رب العالمين..!!



    **



    والآن تعالوا نقترب من الحكيم والقدّيس.. ألا تبصرون الضياء الذي يتلألأ حول جبينه..؟

    ألا تشمّون العبير الفوّاح القادم من ناحيته..؟؟

    انه ضياء الحكمة, وعبير الايمان..

    ولقد التقى الايمان والحكمة في هذا الرجل الأوّاب لقاء سعيدا, أيّ سعيد..!!

    سئلت أمه عن أفضل ما كان يحب من عمل.. فأجابت:

    " التفكر والاعتبار".

    أجل لقد وعى قول الله في أكثر من آية:

    (فاعتبروا يا أولي الأبصار)...

    وكان هو يحضّ اخوانه على التأمل والتفكّر يقول لهم:

    " تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة"..

    لقد استولت العبادة والتأمل ونشدان الحقيقة على كل نفسه.. وكل حياته..



    ويوم اقتنع بالاسلام دينا, وبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الدين الكريم, كان تاجرا ناجحا من تجار المدينة النابهين, وكان قد قضى شطر حياته في التجارة قبل أن يسلم, بل وقبل أن يأتي الرسول والمسلمون المدينة مهاجرين..

    بيد أنه لم يمض على اسلامه غير وقت وجيز حتى..

    ولكن لندعه هو يكمل لنا الحديث:

    " أسلمت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأنا تاجر..

    وأردت أن تجتمع لي العبادة والتجارة فلم يجتمعا..

    فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة.

    وما يسرّني اليوم أن أبيع وأشتري فأربح كل يوم ثلاثمائة دينار, حتى لو يكون حانوتي على باب المسجد..

    ألا اني لا أقول لكم: ان الله حرّم البيع..

    ولكني أحبّ أن أكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"..!!



    أرأيتم كيف يتكلّم فيوفي القضيّة حقها, وتشرق الحكمة والصدق من خلال كلماته..؟؟

    انه يسارع قبل أن نسأله: وهل حرّم الله التجارة يا أبا الدرداء...؟؟

    يسارع فينفض عن خواطرنا هذا التساؤول, ويشير الى الهدف الأسمى الذي كان ينشده, ومن أجله ترك التجارة برغم نجاحه فيها..

    لقد كان رجلا ينشد تخصصا روحيا وتفوقا يرنو الى أقصى درجات الكمال الميسور لبني الانسان..



    لقد أراد العبادة كمعراج يرفعه الى عالم الخير الأسمى, ويشارف به الحق في جلاله, والحقيقة في مشرقها, ولو أرادها مجرّد تكاليف تؤدّى, ومحظورات تترك, لاستطاع أن يجمع بينها وبين تجارته وأعماله...

    فكم من تجار صالحين.. وكم من صالحين تجار...



    ولقد كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم تلههم تجارتهم ولا بيعهم عن ذكر الله.. بل اجتهدوا في انماء تجارتهم وأموالهم ليخدموا بها قضية الاسلام, ويكفوا بها حاجات المسلمين..

    ولكن منهج هؤلاء الأصحاب, لا يغمز منهج أبو الدرداء, كما أن منهجه لا يغمز منهجهم, فكل ميسّر لما خلق له..



    وأبو الدرداء يحسّ احساسا صادقا أنه خلق لما نذر له حياته..

    التخصص في نشدان الحقيقة بممارسة أقصى حالات التبتل وفق الايمان الذي هداه اليه ربه, ورسوله والاسلام..

    سمّوه ان شئتم تصوّفا..

    ولكنه تصوّف رجل توفّر له فطنة المؤمن, وقدرة الفيلسوف, وتجربة المحارب, وفقه الصحابي, ما جعل تصوّفه حركة حيّة في ل\بناء الروح, لا مجرّد ظلال صالحة لهذا البناء..!!



    أجل..

    ذلك هو أبو الدرداء, صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلميذه..

    وذلكم هو أبو الدرداء, الحكيم, القدّيس..

    ورجل دفع الدنيا بكلتا راحتيه, وزادها بصدره..

    رجل عكف على نفسه وصقلها وزكّاها, وحتى صارت مرآة صافية انعكس عليها من الحكمة, والصواب, والخير, ما جعل من أبي الدرداء معلما عظيما وحكيما قويما..

    سعداء, أولئك الذين يقبلون عليه, ويصغون اليه..

    ألا تعالوا نف\قترب من حكمته يا أولي الألباب..

    ولنبدأ بفلسفته تجاه الدنيا وتجاه مباهجها وزخارفها..

    انه متأثر حتى أعماق روحه بآيات القرآن الرادعة عن:

    ( الذي جمع مالا وعدّده.. يحسب أن ماله اخلده)...

    ومتأثر حتى أعماق روحه بقول الرسول:

    " ما قلّ وكفى, خير مما كثر وألهى"..

    ويقول عليه السلام:

    " تفرّغوا من هموم الدنيا ما استطعتم, فانه من كانت الدنيا أكبر همّه, فرّق الله شمله, وجعل فقره بين عينيه.. ومن كانت الآخرة أكبر همّه جمع شمله, وجعل غناه في قلبه, وكان الله اليه بكل خير أسرع".

    من أجل ذلك, كان يرثي لأولئك الذين وقعوا أسرى طموح الثروة ويقول:

    " اللهم اني أعوذ بك من شتات القلب"..

    سئل:

    وما شتات القلب يا أبا الدرداء..؟؟

    فأجاب:

    أن يكون لي في كل واد مال"..!!

    وهو يدعو الناس الى امتلاك الدنيا والاستغناء عنها.. فذلك هو الامتلاك الحقيقي لها.. أما الجري وراء أطماعها التي لا تؤذن بالانتهاء, فذلك شر ألوان العبودية والرّق.

    هنالك يقول:

    " من لم يكن غنيا عن الدنيا, فلا دنيا له"..

    والمال عنده وسيلة للعيش القنوع تامعتدل ليس غير.

    ومن ثم فان على الناس أن يأخذوه من حلال, وأن يكسبوه في رفق واعتدال, لا في جشع وتهالك.

    فهو يقول:

    " لا تأكل الا طيّبا..

    ولا تكسب الا طيّبا..

    ولا تدخل بيتك الا طيّبا".

    ويكتب لصاحب له فيقول:

    ".. أما بعد, فلست في شيء من عرض الدنيا, والا وقد كان لغيرك قبلك.. وهو صائر لغيرك بعدك.. وليس لك منه الا ما قدّمت لنفسك... فآثرها على من تجمع المال له من ولدك ليكون له ارثا, فأنت انما تجمع لواحد من اثنين:

    اما ولد صالح يعمل فيه بطاعة الله, فيسعد بما شقيت به..

    واما ولد عاص, يعمل فيه بمعصية الله, فتشقى بما جمعت له,

    فثق لهم بما عند الله من رزق, وانج بنفسك"..!



    كانت الدنيا كلها في عين أبي الدرداء مجرّد عارية..

    عندما فتحت قبرص وحملت غنائم الحرب الى المدينة رأى الناس أبا الدرداء يبكي... واقتربوا دهشين يسألونه, وتولى توجيه السؤال اليه:" جبير بن نفير":

    قال له:

    " يا أبا الدرداء, ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الاسلام وأهله"..؟؟

    فأجاب أبو الدرداء في حكمة بالغة وفهم عميق:

    ويحك يا جبير..

    ما أهون الخلق على الله اذا هم تركوا أمره..

    بينما هي أمة, ظاهرة, قاهرة, لها الملك, تركت أمر الله, فصارت الى ما ترى"..!

    أجل..



    وبهذا كان يعلل الانهيار السريع الذي تلحقه جيوش الاسلام بالبلاد المفتوحة, افلاس تلك البلاد من روحانية صادقة تعصمها, ودين صحيح يصلها بالله..

    ومن هنا أيضا, كان يخشى على المسلمين أياما تنحلّ فيها عرى الايمان, وتضعف روابطهم بالله, وبالحق, وبالصلاح, فتنتقل العارية من أيديهم, بنفس السهولة التي انتقلت بها من قبل اليهم..!!



    **



    وكما كانت الدنيا بأسرها مجرّد عارية في يقينه, كذلك كانت جسرا الى حياة أبقى وأروع..

    دخل عليه أصحابه يعودونه وهو مريض, فوجدوه نائما على فراش من جلد..

    فقالوا له:" لو شئت كان لك فراش أطيب وأنعم.."

    فأجابهم وهو يشير بسبّابته, وبريق عينيه صوب الأمام البعيد:

    " ان دارنا هناك..

    لها نجمع.. واليها نرجع..

    نظعن اليها. ونعمل لها"..!!

    وهذه النظرة الى الدنيا ليست عند أبي الدرداء وجهة نظر فحسب بل ومنهج حياة كذلك..

    خطب يزيد بن معاوية ابنته الدرداء فردّه, ولم يقبل خطبته, ثم خطبها واحد من فقراء المسلمين وصالحيهم, فزوّجها أبو الدرداء منه.

    وعجب الناس لهذا التصرّف, فعلّمهم أبو الدرداء قائلا:

    " ما ظنّكم بالدرداء, اذا قام على رأسها الخدم والخصيا وبهرها زخرف القصور..

    أين دينها منها يومئذ"..؟!

    هذا حكيم قويم النفس, ذكي الفؤاد..

    وهو يرفض من الدنيا ومن متاعها كل ما يشدّ النفس اليها, ويولّه القلب بها..

    وهو بهذا لا يهرب من السعادة بل اليها..

    فالسعادة الحقة عتده هي أن تمتلك الدنيا, لا أن تمتلكك أنت الدنيا..

    وكلما وقفت مطالب الناس في الحياة عند حدود القناعة والاعتدال وكلما أدركوا حقيقة الدنيا كجسر يعبرون عليه الى دار القرار والمآل والخلود, كلما صنعوا هذا, كان نصيبهم من السعادة الحقة أوفى وأعظم..

    وانه ليقول:

    " ليس الخير أن يكثر مالك وولدك, ولكن الخير أن يعظم حلمك, ويكثر علمك, وأن تباري الناس في عبادة الله تعالى"..

    وفي خلافة عثمان رضي الله عنه, وكان معاوية أميرا على الشام نزل أبو الدرداء على رغبة الخليفة في أن يلي القضاء..

    وهناك في الشام وقف بالمرصاد لجميع الذين أغرّتهم مباهج الدنيا, وراح يذكّر بمنهج الرسول في حياته, وزهده, وبمنهج الرعيل الأول من الشهداء والصدّيقين..

    وكانت الشام يومئذ حاضرة تموج بالمباهج والنعيم..

    وكأن أهلها ضاقوا ذرعا بهذا الذي ينغصّ عليهم بمواعظه متاعهم ودنياهم..

    فجمعهم أبو الدرداء, وقام فيهم خطيبا:

    " يا أهل الشام..

    أنتم الاخوان في الدين, والجيران في الدار, والأنصار على الأعداء..

    ولكن مالي أراكم لا تستحيون..؟؟

    تجمعون ما لا تأكلون..

    وتبنون ما لا تسكنون..

    وترجون ما لا تبلّغون..

    وقد كانت القرون من قبلكم يجمعون, فيوعون..

    ويؤمّلون, فيطيلون..

    ويبنون, فيوثقون..

    فأصبح جمعهم بورا..

    وأماهم غرورا..

    وبيوتهم قبورا..

    أولئك قوم عاد, ملؤا ما بين عدن الى عمان أموالا وأولادا..".

    ثم ارتسمت على شفتيه بسمة عريضة ساخرة, ولوّح بذراعه في الجمع الذاهل, وصاح في سخرية لا فحة:

    " من يشتري مني تركة آل عاد بدرهمين"..؟!



    رجل باهر, رائع, مضيء, حكمته مؤمنة, ومشاعره ورعة, ومنطقه سديد ورشيد..!!

    العبادة عند أبي الدرداء ليست غرورا ولا تأليا. انما هي التماس للخير, وتعرّض لرحمة الله, وضراعة دائمة تذكّر الانسان بضعفه. وبفضل ربه عليه:

    انه يقول:

    التمسوا الخير دهركم كله..

    وتعرّضوا لنفجات رحمة الله, فان للله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده..

    " وسلوا الله أن يستر عوراتكم, ويؤمّن روعاتكم"...

    كان ذلك الحكيم مفتوح العينين دائما على غرور العبادة, يحذّر منه الناس.

    هذا الغرور الذي يصيب بعض الضعاف في ايمانهم حين يأخذهم الزهو بعبادتهم, فيتألّون بها على الآخرين ويدلّون..

    فلنستمع له ما يقول:

    " مثقال ذرّة من برّ صاحب تقوى ويقين, أرجح وأفضل من أمثال الجبال من عبادة النغترّين"..

    ويقول أيضا:

    "لا تكلفوا الناس ما لم يكلفوا..

    ولا تحاسبوهم دون ربهم

    عليكم أنفسكم, فان من تتبع ما يرى في الانس يطل حزنه"..!

    انه لا يريد للعابد مهما يعل في العبادة شأوه أن يجرّد من نفسه ديّانا تجاه العبد.

    عليه أن يحمد الله على توفيقه, وأن يعاون بدعائه وبنبل مشاعره ونواياه أولئك الذين لم يدركوا مثل هذا التوفيق.

    هل تعرفون حكمة أنضر وأبهى من حكمة هذا الحكيم..؟؟

    يحدثنا صاحبه أبو قلابة فيقول:

    " مرّ أبو الدرداء يوما على رجل قد أصاب ذنبا, والناس يسبّونه, فنهاهم وقال: أرأيتم لو وجدتموه في حفرة.. ألم تكونوا مخرجيه منها..؟

    قالوا بلى..

    قال: فلا تسبّوه اذن, وحمدوا الله الذي عافاكم.

    قالوا: أنبغضه..؟

    قال: انما أبغضوا عمله, فاذا تركه فهو أخي"..!!



    **



    واذاكان هذا أحد وجهي العبادة عند أبي الدرداء, فان وجهها الآخر هو العلم والمعرفة..

    ان أبا الدرداء يقدّس العلم تقديسا بعيدا.. يقدّسه كحكيم, ويقدّسه كعابد فيقول:

    " لا يكون أحدكم تقيا جتى يكون عالما..

    ولن يكون بالعلم جميلا, حتى يكون به عاملا".

    أجل..

    فالعلم عنده فهم, وسلوك.. معرفة, ومنهج.. فكرة حياة..

    ولأن تقديسه هذا تقديس رجل حكيم, نراه ينادي بأن العلم كالمتعلم كلاهما سواء في الفضل, والمكانة, والمثوبة..

    ويرى أن عظمة الحياة منوطة بالعلم الخيّر قبل أي شيء سواه..

    ها هو ذا يقول:

    " مالي أرى العلماء كم يذهبون, وجهّالكم لا يتعلمون؟؟ ألا ان معلّم الخير والمتعلّم في الأجر سواء.. ولا خير في سائر الناس بعدهما"..

    ويقول أيضا:

    " الناس ثلاثة..

    عالم..

    ومتعلم..

    والثالث همج لا خير فيه".



    وكما رأينا من قبل, لا ينفصل العلم في حكمة أبي الدرداء رضي الله عنه عن العمل.

    يقول:

    " ان أخشى ما أخشاه على نفسي أن يقال لي يوم القيامة على رؤوس الخلائق: يا عويمر, هل علمت؟؟

    فأقول نعم..

    فيقال لي: فماذا عملت فيما علمت"..؟

    وكان يجلّ العلماء العاملين ويوقرهم توقيرا كبيرا, بل كان يدعو ربّه ويقول:

    " اللهم اني أعوذ بك أن تلعنني قلوب العلماء.."

    قيل له:

    وكيف تلعنك قلوبهم؟

    قال رضي الله عنه:

    " تكرهني"..!

    أرأيتم؟؟

    انه يرى في كراهيّة العالم لعنة لا يطيقها.. ومن ثمّ فهو يضرع الى ربه أن يعيذه منها..



    وتستوصي حكمة أبي الدرداء بالاخاء خيرا, وتبنى علاقة الانسان بالانسان على أساس من واقع الطبيعة الانسانية ذاتها فيقول:

    " معاتبة الأخ خير لك من فقده, ومن لك بأخيك كله..؟

    أعط أخاك ولن له..

    ولا تطع فيه حاسدا, فتكون مثله.

    غدا يأتيك الموت, فيكفيك فقده..

    وكيف تبكيه بعد الموت, وفي الحياة ما كنت أديت حقه"..؟؟

    ومراقبة الله في عباده قاعدة صلبة يبني عليها أبو الدرداء حقوق الاخاء..

    يقول رضي الله عنه وأرضاه:

    " اني أبغض أن أظلم أحدا.. ولكني أبغض أكثر وأكثر, أن أظلم من لا يستعين عليّ الا بالله العليّ الكبير"..!!

    يل لعظمة نفسك, واشراق روحك يا أبا الدرداء..!!

    انه يحذّر الناس من خداع الوهك, حين يظنون أن المستضعفين العزّل أقرب منالا من أيديهم, ومن بأسهم..!

    ويذكّرهم أن هؤلاء في ضعفهم يملكون قوّة ماحقة حين يتوسلون الى الله عز وجل بعجزهم, ويطرحون بين يديه قضيتهم, وهو أنهم على الناس..!!

    هذا هو أبو الدرداء الحكيم..!

    هذا هو أبو الدرداء الزاهد, العابد, الأوّاب..

    هذا هو أبو الدرداء الذي كان اذا أطرى الناس تقاه, وسألوه الدعاء, أجابهم في تواضع وثيق قائلا:

    " لا أحسن السباحة.. وأخاف الغرق"..!!



    **



    كل هذا, ولا تحسن السباحة يا أبا الدرداء..؟؟

    ولكن أي عجب, وأنت تربية الرسول عليه الصلاة والسلام... وتلميذ القرآن.. وابن الاسلام الأوّل وصاحب أبي بكر وعمر, وبقيّة الرجال..!؟

    زيوس
    زيوس

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars13


    الجنس : ذكر
    عدد المساهمات : 1634
    تاريخ التسجيل : 12/03/2010
    المزاجشاعري

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف زيوس الجمعة يوليو 09, 2010 4:43 am





    أبيّ بن كعب



    ليهنك العلم, أبا المنذر



    سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم:

    " يا أبا المنذر..؟

    أي آية من كتاب الله أعظم..؟؟

    فأجاب قائلا:

    الله ورسوله أعلم..

    وأعاد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سؤاله:

    أبا المنذر..؟؟

    أيّ أية من كتاب الله أعظم..؟؟

    وأجاب أبيّ:

    الله لا اله الا هو الحيّ القيّوم..

    فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره بيده, وقال له والغبطة تتألق على محيّاه:

    ليهنك العلم أبا المنذر"...



    **



    ان أبا المنذر الذي هنأه الرسول الكريم بما أنعم الله عليه من علم وفهم هو أبيّ بن كعب الصحابي الجليل..

    هو أنصاري من الخزرج, شهد العقبة, وبدرا, وبقية المشاهد..

    وبلغ من المسلمين الأوائل منزلة رفيعة, ومكانا عاليا, حتى لقد قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما:

    " أبيّ سيّد المسلمين"..

    وكان أبيّ بن كعب في مقدمة الذين يكتبون الوحي, ويكتبون الرسائل..

    وكان في حفظه القرآن الكريم, وترتيله اياه, وفهمه آياته,من المتفوقين..

    قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما:

    " يا أبيّ بن كعب..

    اني أمرت أن أعرض عليك القرآن"..

    وأبيّ يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انما يتلقى أوامره من الوحي..

    هنالك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في نشوة غامرة:

    " يا رسول الله بأبي أنت وأمي.. وهل ذكرت لك بأسمي"..؟؟

    فأجاب الرسزل:

    " نعم..

    باسمك, ونسبك, في الملأ الأعلى"..!!

    وان مسلما يبلغ من قلب النبي صلى الله عليه وسلم هذه المنزلة لهو مسلم عظيم جد عظيم..

    وطوال سنوات الصحبة, وأبيّ بن كعب قريب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهل من معينه العذب المعطاء..

    وبعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الى الرفيق الأعلى, ظلّ أبيّ على عهده الوثيق.. في عبادته, وفي قوة دينه, وخلقه..

    وكان دائما نذيرا في قومه..

    يذكرهم بأيام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وماكانوا عليه من عهد, وسلوك وزهد..

    ومن كلماته الباهرة التي كان يهتف بها في أصحابه:

    " لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوهنا واحدة..

    فلما فارقنا, اختلفت جوهنا يمينا وشمالا"..



    **



    ولقد ظل مستمسكا بالتقوى, معتصما بالزهد, فلم تستطع الدنيا أن تفتنه أو تخدعه..

    ذلك أنه كان يرى حقيقتها في نهايتها..

    فمهما يعيش المرء, ومهما يتقلب في المناعم والطيبات, فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك الى هباء, ولا يجد بين يديه الا ما عمل من خير, أو ما عمل من سوء..

    وعن عمل الدنيا يتحدّث أبيّ فيقول:

    " ان طعام ني آدم, قد ضرب للدنيا مثلا..

    فان ملّحه, وقذحه, فانظر الى ماذا يصير"..؟؟



    **



    وكان أبيّ اذا تحدّث للناس استشرفته الأعناق والأسماع في شوق واصغاء..

    ذلك أنه من الذين لم يخافوا في الله أحدا.. ولم يطلبوا من الدنيا غرضا..

    وحين اتسعت بلاد الاسلام, ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم في غير حق, وقف يرسل كلماته المنذرة:

    " هلكوا ورب الكعبة..

    هلكوا وأهلكوا..

    أما اني لا آسى عليهم, ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين".



    **



    وكان على كثرة ورعه وتقاه, يبكي كلما ذكر الله واليوم الآخر.

    وكانت آيات القرآن الكريم وهو يرتلها, أ, يسنعها, تهه وتهز كل كيانه..

    وعلىأن آية من تلك الآيات الكريمة, كان اذا سمعها أو تلاها تغشاه من الأسى ما لا يوصف..

    تلك هي:

    ( قل هو القادر على ان يبعث عليكم عذابا من فوقكم, أو من تحت أرجلكم, أو يلبسكم شيعا.. ويذيق بعضكم بأس بعض)..

    كان أكثر ما يخشاه أبيّ على الأمة المسلمو أن يأتي عليها اليوم الذي يصير بأس أبنائها بينهم شديدا..

    وكان يسأل الله العافية دوما.. ولقد أدركها بفضل من الله ونعمة..

    ولقي ربه مؤمنا, وآمنا ومثابا..

    الملكة هيرا
    الملكة هيرا

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم Stars6


    الجنس : انثى
    عدد المساهمات : 616
    تاريخ التسجيل : 01/05/2010
    المزاجالحمد الله

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف الملكة هيرا الجمعة يوليو 09, 2010 5:32 am

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم MashaAllah
    avatar
    روما
    زيوس فعال
    زيوس فعال


    الجنس : انثى
    عدد المساهمات : 149
    تاريخ التسجيل : 29/10/2010
    المزاجالحمدلله

    اسلام رد: أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم

    مُساهمة من طرف روما الأربعاء نوفمبر 03, 2010 5:13 am

    فعلا أبطال كبار وصحبة نادرة تلك التي كانت مع السول الكريم صلى الله عليه وسلم، أصدقك القول أني احسدهم ولا ادري إن كان حلالا ام حراما .


    فمهما يعيش المرء, ومهما يتقلب في المناعم والطيبات, فانه ملاق يوما يتحول فيه كل ذلك الى هباء, ولا يجد بين يديه الا ما عمل من خير, أو ما عمل من سوء..

    أبطال حول الرسول صلى الله عليه وسلم 46fl1

      الوقت/التاريخ الآن هو الثلاثاء مايو 07, 2024 10:16 pm